د. مصطفى لفضيلي
عشق الذاكرة الراحلة
في رواية “مع البسطاء”[1]
أهمية العنوان:
قد يتساءل القارئ عن علاقة الذاكرة بهذا المتن الحكائي، ونجيبه بأن ولوج غمار العالم الحكائي لهذه الرواية كشف عن كون الذاكرة مؤطرة للفعل السردي للكاتب، فقد بدا أن أزمة شخصياته سببها هو انسلاخ حاضرها عن ماضيها، وتنكرها له، لذلك حاول استحضارها –أي الذاكرة- ذهنيا، فلما عجز بسبب غياب الصفاء الذهني الذي يسمح بذلك، كان أمامه خيار واحد هو التوجه عبر المكان بحثا عن الزمان الماضي الذي صاغ تلك الذاكرة، لذا نجد بنية الرحلة كما هي معروفة حاضرة في هذا المتن من حيث الإشارة إلى دواع الرحلة والهدف منها ثم الزاد ومحطاتها والصعاب التي اعترضت الرحالة وطرق تجاوزها له في رحلتي الذهاب والإياب.
وعبر هذه البنية تتبدى مجموعة من الدوال والقضايا التي تعتبر حجر الزاوية في الرواية. نتحدث هنا عن صراع القيم الذي يضم ثنائيات ضدية: القرية/المدينة، الفقر/الغنى، البساطة/التعقيد، الحقيقة/الزيف، الماضي/الحاضر…وهي ثنائيات تصطف على خطين، أحدهما إيجابي: القرية والفقر والبساطة والحقيقة والماضي… والآخر سلبي: المدينة والغنى والتعقيد والزيف والحاضر..
- المتن الحكائي/السرد الروائي:
يقوم السرد في رواية “مع البسطاء” على مسارين سرديين:
الأول: ويتمثل في المحكي الرئيس في الرواية وهو قصة الشخصية المحورية الذي يعاني من ضغط الواقع بزيفه فيقرر الهروب منه والقيام برحلة بحثا عمن يعيد له توازنه وصفاءه الداخلي رغبة منه في لقاء البسطاء ويختار لذلك طرقا ثانوية وعبر محطات يخضع خلالها لاختبارات ومواقف وتجارب يخرج منها شخصا آخر جديدا.
الثاني: ويقوم على عدة محكيات لشخصيات أخرى في المحكي: عمر وعائلته وإبراهيم والمعلم وعمال النظافة وعمال المزابل ورواد العلب الليلية والمومسات…شخصيات بعضها يرتبط بالأرض والأحلام والآخر مرتهن للحظة والذات.
- بنية الرواية/الرحلة:
تخضع رواية “مع البسطاء” لبنية تقترب بها من النص الرحلي من حيث قيامها على مشاهد الرحلة الثلاث[2]: الخروج والمسير والوصول، مشاهد تحتضن وتتوزع أحداث الرواية. وقد دونت الشخصية الرئيسة زمن الرحلة ومدتها التي بلغت عشرة أيام، كما سجلت المراحل المتعاقبة من خلال خارطة تتميز بمحطات محددة[3] انتظمت أحداث الرواية/الرحلة كالتالي:
2 -أ- مشهد الخروج/في الحاجة إلى الرحلة:
تؤكد الشخصية على ضرورة الرحلة وأهميتها من خلال الإشارة إلى الحالة النفسية التي تعيشها وهي حالة طابعها الأساس التيه والقلق والفراغ القاتل الذي جعله يعيش صراعا داخليا فقد معه طمأنينة النفس وسكينة الروح، كان لزاما عليه أن يحسمه، يقول:”رافقني ذلك الأمر ولم أستطع التخلص منه، مرت أيام وأنا لا أزال في دوامة..لم تتركني لحظة، حين أستيقظ من نومي أجدها تتردد على لساني كأن اللاشعور ينطق وكأنني فقدت السيطرة عن لساني، لم احتمل الوضع الذي دام أياما .. وقررت خوض التجربة…قررت السفر والخروج من المدينة التي أعيش فيها، قررت البحث في أقاصي البلاد عمن ليس لديهم ما لدي، عن البسطاء”[4].
فكان قرار خوض التجربة. والملاحظ أن الكاتب استعمل فعل “خاض” ومن معانيه الدخول والاندفاع والاقتحام والإمعان، وكلها معان ذات بعد نفسي يحيل على قوة الرغبة والإرادة. مما يجعلنا أمام حالة وجدانية يعيشها بطل الرواية خارجيا وداخليا[5]. فيصبح تبعا لذلك السفر تجربة صوفية بحثا عن السعادة، “نصيحة والدك الذي طالما أوصاك بالنظر للأسفل من أجل الإحساس بالسعادة”[6]. ولا يغيب عن بالنا أن المتصوفة عندما تحدثوا عن السفر قالوا: هو توجه القلب إلى الحق[7]، وما الحق إلا الحقيقة التي يحيى لها ومن أجلها الإنسان. فتغدو الرحلة إنعاشا للذاكرة. وإنارة لسبل السعادة التي تتضمن تأمل الماضي لإيجاد الإجابة عن تساؤلات الحاضر ولصناعة المستقبل. وبذلك تؤسس الرواية مشهدها الرحلي على الرغبة في التطهر[8] من ألوان الزيف والفبركة، بحثا عن السلام الداخلي[9]. فتصير رحلة الشخصية رحلة صوفي يبحث عن سر الحياة، وماهية الإنسان والأشياء.
2 – ب- مشهد المسير/بداية الرحلة ومحطاتها:
تخوض الشخصية هذه الرحلة بدون دليل مرشد، اللهم الألم والأمل، يقول:”أبحث عن صدفة القدر، لا أوقف أحدا، ولا أكلم أحدا، أتأمل وأنظر فقط في الوجوه … ينتابني الألم كلما لاحت مظاهر الفقر حولي ويجتاحني شعور بالأمل كلما صادفت أطفالا تنضح وجوههم بالبراءة”[10].
ونلاحظ أن هذه الثنائية إلى جانب ثنائيات أخرى رافقت الشخصية طيلة محطات الرحلة ذهابا وإيابا، أقصد الألم والأمل. والتي نميز ضمنها – طبعا بعد إعادة ترتيبها – بين محطات أربعة اصطلحنا على تسميتها:
- محطة الصدمة والمعاناة.
- محطة الاختبار والتوهج.
- محطة التزود وترميم الذاكرة.
- محطة الانغماس والتماهي.
- محطة الصدمة والمعاناة:
تميزت بحالات ووقائع ومواقع شكلت صدمة للشخصية وجعلتها تعاني، نذكر هنا المدشر حيث فشل اللقاء مع البسطاء. والمقهى على الطريق حيث خرج الشيوخ وتركوه غارقا في تساؤلاته، ثم خيمة إبراهيم والتي كان عليه قبل الوصول إليها أن يخضع لطقوس خاصة: التخلص من السيارة وولوج عالم الصحراء راجلا، والريح التي عفرت لباسه ووجهه، ثم سقوطه وتأثر ركبته، ووقوف الكلب عليه مكشرا عن أنيابه، وأخيرا صاحب الخيمة الذي قاده إلى خيمته ليشاهد بساطة البساطة… مما يدفعنا إلى اعتبار هذه المحطة محطة التعري التام من كل مظاهر الزيف التي تغلف شخصية البطل.. ونستحضر هنا رفضه المبيت في خيمة إبراهيم خوفا من العوالم الليلية الصحراوية(الأفاعي والعقارب). إنها محطة المعاناة، التي لا بد منها من أجل الارتقاء والسمو. فمن رحم المعاناة تولد النفس وتتجدد.
- محطة الاختبار والتوهج:
لا بد من اختبار الذات/ الشخصية والتبين من مدى تباتها وإصرارها على المتابعة. يتعرض خلالها البطل للإغراء والاختبار: فيمتحن في مدى صلابة عوده وشدة ثباته، يقول:”صادفت على الطريق فتاتين تبحثان عمن يقلهما..وقفت ولم أكترث متسلحا بمبادئي وأخلاقي، مؤمنا بنفسي وبهدف سفري”[11]، وكذلك المدينة على الطريق والتي كانت تذكيرا بعالم ما قبل الرحلة وامتحانا آخر كان الراوي/الشخصية حريصا على أن يكون متميزا فيها، “احتللت مكانا قصيا مظلما وطلبت كأس مشروب غازي”[12]. وتتوالى المواقف أمامه والاختبارات فينتصر للنادل في مواجهة الزوجين الساديين، ويرفض سلوك نادل آخر يحتال على رب الفندق، ولا يجد تبريرا لسلوك المومسات ويمتعض من سلوك رجال الدرك، ويدين سلوك أحمد المهندس.. محطة كانت لها أهميتها في زعزعة وتمحيص قناعات الشخصية الرئيسة التي خرجت منها وهي مفعمة بكل أسباب القوة والتبات.
- محطة التزود وترميم الذاكرة:
كل رحلة لا بد لها من محطة استراحة وتزود وإنعاش، ولم تخرج الرواية/الرحلة عن هذا السنن. فنجد محطات تخللت مسيرها وكان لها دورها في تنامي فعل الحكي. نذكر هنا المقهى في الطريق الخال، هي طريق الرحلة، وقد كانت محطة للتزود من وحشة الطريق، وبارقة أمل بعدما استعصى الاتصال بأهل المدشر، فأحيت أملا بعد ألم. ثم القرية على الطريق: وقد شكلت محطة التقت عندها رحلة البطل برحلات شخصيات أخرى، جمعتها ورحلة البطل مسالك الحياة والبحث عن الذات التائهة في مسارب الحياة المعاصرة. جميعهم هربوا من صخب الحياة المفبركة[13]. ونلاحظ أن هذه القرية موجودة في منطقة صحراوية، فكانت نقطة عبور وملتقى لرحالة آخرين، فهل للصحراء برمزيتها دلالة في هذا الاستعمال؟…وأخيرا محطة المدينة الجامعية التي احتضنت جزءا من تاريخ الشخصية فكان المرور بمحطات الماضي أمرا ضروريا من أجل ترميم الذاكرة[14].
- محطة الانغماس والتماهي:
وهي المحطة التي لم تكتف فيها الشخصية المحورية بالملاحظة بل تعداها إلى تذوق طبيعة تلك الحياة فانخرط في حياة عمال النظافة وعايش وضعية مخفر الشرطة وتذوق مرارة المستشفى…
والملاحظ أن شخصية الرواية كانت حريصة على ملء محطات هذه الرواية/الرحلة بعناصر عدة تتوزع إلى:
- خصوصية الفضاء القروي في مقابل الفضاء المدني.
- طبيعة أخلاق أهل القرى والبدو.
- حالة الشخصية الجسدية والنفسية تبعا لذلك الفضاء وتلك الطبائع.
وقد كشفت هذه العناصر عن صراع ذي وجهين، أحدهما داخلي يجمع بين العقل والقلب. والآخر خارجي يجمع بين القرية والمدينة.
- العقل/القلب: العقل يريد أن يخضع الذات لقواعد السلوك الإنساني والتجمع البشري والقلب يريد أن يحرر الذات من القيود التي تكبلها والالتزامات، العقل يشتغل بتفكير مؤسسي اجتماعي والقلب يفضل الطيران والتحليق بعيدا عن أي ارتباط بالآخر.
- القرية/المدينة: وهو صراع يقوم على مجموعة من المتناقضات نحتاج إلى تفصيل الحديث فيها، لذلك سنخص كل فضاء منهما بحديث خاص.
- القرية: تظهر القرية في الرواية حابلة بمجموعة من الصفات التي تلتئم فيما بينها لتصوغ لنا ما سمته الشخصية الحفاظ على الدين وفن العيش في بساطة وسعادة:
- البساطة: التي تتأسس على كون المظاهر في هذا الفضاء تفقد قيمتها، لتفسح المجال لجوهر الإنسان والأشياء. فهناك البساطة في المسكن: بيت طيني بسيط.. فراش قديم بسيط..الخيمة.. زربية تقليدية.. بساطة البساطة.. وفي اللباس: بشعر أشعث .. ولباس متهالك ونعل بلاستيكي.. وحقيبتي المتهالكة.. وحدائي المتسخ… وفي التفكير: يرون حالهم قدرا ومصائبهم مكتوبا، لا يتقاتلون على مناصب ولا يزاحمون أصحاب البطون المتدلية، مطيعون متأقلمون مع واقعهم بلا صراع ولا جدال.. وهي بساطة بلغت حد الغرق في السحر والشعوذة والأمية فسكان القرى يعتبرون الدجال حلا لكل معضلة.. بساطة تفهم أن السياسة صراع بين الملك والآخرين والأكثر من ذلك أنها بساطة يظل فيها الأبناء صغارا ولو كبروا إلى أن يموت الآباء.. بل تصل حد الاستحياء من وجودهم الطبيعي(قضاء الحاجة).
- القيم: تتأطر القيم داخل الرواية بالإجابة عن سؤال جوهري وأساس وعليه مدار الحكي:”لما تعيش ونعيش؟”[15]، لذلك تمتاز القيم القروية كما يبدو من خلال الرواية بكونها تتأسس على مرجعية مبدئية تقوم على الإحساس بالواجب اتجاه الآخر وخدمة الصالح العام، كما جاء في الرواية:”أنا أقول أننا نعيش لكوننا فاعلين في مجتمعاتنا، حاملين هموم الآخرين منتجين ولسنا فقط مستهلكين”[16].
ومعناه أن يصير البطل عبْدَ الناس وهمومهم، وهنا نستحضر أغلب شخصيات الرواية: عمر الذي عاش التشرد والضياع ولكن عندما نادى عليه الواجب لبى النداء، يقول الراوي:”نادى عليه صوت الواجب، تذكر إخوانه وأخواته، فرجع إلى حضن الأسرة، لا لأن يغترف من حنانها بل ليعطيها من ذاته وعضلاته”[17]، يضيف الراوي:”هذا الشاب الشهم، تنكر لذاته ولآماله ويعيش شمعة تحترق لتضيء الآخرين”[18]، الأمر الذي قد يدفعه إلى التضحية بكرامته من أجل هذا الواجب(قصة النادل مع الزوجين الساديين المتعجرفين…)، ويذهب النوم عن جفنيه، يقول الراوي:”لم ينم الليلة لإحساسه بهول المسؤولية”[19].
قيم تقوم على الكسب الحلال والأكل من عرق الجبين وعدم التسول والرضا بالقليل حفظا لماء الوجه من المذلة(عمر، إبراهيم).
2 -المدينة: كانت المدينة من الموضوعات التي شغلت الشعر العربي الحديث، ومن خلال هذا الشعر بدت محنطة خالية من كل مشاعر الإنسانية، فهي أسوار تحيط بها أسوار، بلا قلب ولا حب، وأهلها تائهون منشغلون، يحترقون يوميا[20].
وتحضر المدينة بكل هذه الحمولة – التي ترسخت عند الشعراء العرب المحدثين- في رواية “مع البسطاء” مفعمة بما يجعل منها فضاء لكل المتناقضات والتي تقوم على المتعة والنسيان، فيغدو معها الإنسان غريبا، فهناك:
- التعقيد: في الحياة التي أصبحت تقوم على المظاهر الزائفة والمزورة التي تخفي حقيقة الأشياء وجوهرها، زيف الشكليات في المسكن: المنزل الفاخر، النقي المضيء، أثاث المنزل الذي لم أعتد رؤية مثيل له..فيلات ضخمة..وحانات يدفن فيها الناس ذواتهم…وفي اللباس: لباس الزوجين العصري، يقول الراوي:”وأصبح منظري يضع حاجزا بيني وبينهم، فقط سيارة جعلت هوة سحيقة تبعدني عنهم وتبعدهم عني..”[21]…وفي التفكير والعيش: حداثة عرجاء، مطار وكثرة انتظار، الأوساخ المنتشرة(الأكياس البلاستيكية)، في المعمل والنقابة والجامعة…
- القيم: تقوم على العيش بلا مبادئ ولا أخلاق، تحقيقا للذة الذات وإبعادا لكل ما ينغص عليها لذتها، فصار أهل المدن يعيشون اللحظة بكل مباهجها وينسون ما عداها، الأمر الذي أدخلهم في غربة قاسية واغتراب مضني، يقول الراوي:”ها أنا غريب عنهم وهم غريبون عني”[22]، جعلتهم تحت سلطة التقليد الأعمى فتحولوا –بتعبير سارتر- إلى مسخ- يقول الراوي:”لا تنس أنك لست إلا حشرة لا قيمة لك بالمقارنة بالآخرين”[23]، ويقول عن الزوجين:”أصبحت أراهما حشرتين ضارتين لا يفقهان في أدب المعاملة ولا في الحياة شيئا”[24]. وسبب ذلك أن أهل المدن فقدوا الضوابط “وأصبحوا فاقدي كل شيء رغم أن لديهم كل شيء”[25] فتحنطوا وفقدوا إنسانيتهم فجرفتهم الحياة في متاهاتها، “ماتت ضمائرهم وازداد جشعهم وتعطشهم للمال”[26]، يتلونون بكافة الألوان “مرة في مسجد، وأخرى في حانة، مرة مثقف وأخرى صعلوك.. إنه الزيف الذي فرض سلطانه على القوم فأصابهم بالعمى واختلطت عليهم الرؤية، وتساوت عندهم الأشياء والقيم فلم يعد هناك فارق بين حلال وحرام.
ونتيجة لذلك أصبح سكان المدن عبيدا لأهوائهم وعبيدا للمال يحرصون على تحصيله مهما كانت الوسائل، فالغاية تبرر الوسيلة كما جاء على لسان أحد شخصيات الرواية:”عن أي حلال او حرام تتكلم؟.. لدي أهداف يجب أن أحققها ولن أذخر وسيلة للوصول إليها”[27]، مما أفرز لنا مجتمعا يبرر الفساد المالي “التلاعب على قانون الفندق” والأخلاقي وهو ما سماه الراوي بـ”صيغة جديدة من العبودية وعصرا جاهليا بألوان وألبسة حديثة”[28]،وهم سكان المدن البحث عن سعادة مصطنعة أصبحت الخبائث معها باهضة الثمن خسارة وربحا.
لذلك يكيل الراوي مجموعة من النعوت السلبية لسكان المدن، فهم متكبرون، ومتعجرفون، وهم وهم، تافهون يعيشون بدون قضية.
وتبقى الإشارة إلى أن هذا التناقض بين الفضاءين يحمل تناقضا آخر داخل كل فضاء على حدة، داخل القرية بين البسطاء أنفسهم عندما يتحول البسيط إلى مصدر للعبودية والمهانة والتسلط، وإن كان مصدر ذلك هو المدينة(قصة الشاب الذي يحضر المبيعات من المدينة وتشتغل تحت إمرته مجموعة من القرويات يضيقهن كل أشكال المهانة..)، وداخل المدينة عندما يعمد البسطاء إلى التنكر لأصلهم ويبحثون عن سبل التسلق وتقليد الآخرين فاختاروا طريقا غير طريق البسطاء.
وعبر هذه الثنائيات يحرص الكاتب ومن خلال شخصيته الرئيسة على توجيه نقد لاذع أحيانا تعددت وجهة سهامه:
مرة اتجاه البسطاء:”رأيت قساوة البسيط على البسيط وآخرين أضلوا طريقهم ربما طمعا في التخلص من البساطة أو لعدم قدرتهم فقط لنسيانها…قد تكون قساوتهم أشد على بعضهم من غيرهم”[29].
وأخرى اتجاه السلطة:”ولم يظهر لي ولو في ضوء النهار وجود للدولة وكل مؤسساتها القابعة في العاصمة، متناسية أناسا يعيشون من الأرض يعيشون فيها ويموتون فيها، لا يتمنون إلا أن يتكرم عليهم بحقهم في الماء والكهرباء، لا يعرفون للتغطية الصحية معنى، ولا للبرلمان مغزى.. لا يهتمون إلا ببعضهم وأسباب رزقهم”[30].
2 –ج- مشهد الوصول:
ليس هناك محطة محددة تقصدها الشخصية إنما هي محطات متعددة، يمكن أن نعتبر معها محطة الانطلاق محطة الوصول. وكأن الرحلة مخاض تعيشه الشخصية لتولد من جديد.
تتعدد محطات الرحلة ذهابا وإيابا، وكأنها مدارج للسالك يرتقي عبرها مدرجا مدرجا إلى أن يصل درجة الصفاء الروحي حيث تتبدى الحقيقة جليا لا يحجبها عن الإنسان حجاب. يقول الراوي:”رحلة..أحيت في نفسي طبعها الأصلي وحالي الذي عشت فيه طفولتي وشبابي..حياتي الجديدة..ولادة ثانية”[31].
خاتمة الكلام:
رواية/رحلة “مع البسطاء” قصة بطل قادم من القرية إلى المدينة من أجل العمل، فيعود إلى القرية عبر رحلة الكشف، رغبة منه في أن يعيد للمدينة بعضا من إنسانيتها التي فقدتها.
فتخدم بذلك الرواية عالم القرية والبداوة عندما تقدمه بحمولته الثقافية والجغرافية والقيمية، في مقابل عالم المدينة.
وما يظهر من نفور سافر لشخصية الرواية من مظاهر الزيف في المدينة، بقوله:”ولعنت الظروف التي غيرت من حالي وحولتني إنسانا آخر”[32]، وقوله:”لعنت المدن وحالها الذي أصبحت عليه متخما بمناظر المال الذي أحدث شروخا اجتماعية غريبة قاسية”[33] …لا يعني مطلقا النظر إليها باعتبارها شرا محضا، كما أن القرية ليست خيرا محضا، وإنما تم التركيز على ما في المدينة الحديثة من مظاهر الأصباغ الزائفة على إثر ذلك الانفتاح غير المعقلن على الثقافة الغربية، وهذا لا ينفي عنها جوانب الخير والنماء والحياة المتطورة[34].
إن رواية “مع البسطاء” للكاتب حسني الشدلي، تصور محنة الإنسان المعاصر في ظل هذا الخضم من المتناقضات التي طفت على سطح الحياة ورهنت الإنسان في صراع بين قيم إيجابية: البراءة والطهر والنقاء….وأخرى سلبية: الخداع والاستغلال والوصولية…
ويمكن القول إن رواية “مع البسطاء” تفجر أسئلة الراهن وتقدم البنية الثقافية الاجتماعية في حركتها، فتصدر قضاياها ورؤيتها ورؤاها وطموحاتها وآمالها، لذلك جاءت الرواية محملة بالنوستالجية أو الحنين إلى الماضي، في مقابل الحاضر الذي لم يستطع استيعاب الذات الحالمة، ورد على لسان الشخصية حوار بين عقله وقلبه:”أنسيت ماضيك وكيف كنت حملا وديعا فقيرا تتصارع وكل قضيتك الوجود، اليوم وقد امتلأ جيبك وأصبحت ذا نفوذ وسلطة تتكبر وتتعجرف”[35] وتريد حماية هذا الماضي من النسيان والاندثار أمام موجة العولمة الكاسحة التي علبت الأشياء والإنسان، وسطحت العقول والأذواق، وغربت الإنسان وجعلته حبيس التفاهة واللامعنى، فأصبح محتاجا إلى ما ينعش ذاكرته فكانت رحلة الشخصية إنعاشا لتلك الذاكرة.
[1] – مع البسطاء: حسني الشدلي، منشورات ،سليكي أخوين، طنجة، ط الأولى، فبراير 2013.
[2] – الرحلة في الأدب العربي: التجنيس، آليات الكتابة، خطاب التخييل، د.شعيب حليفي، رؤية للنشر والتوزيع، ط 1، 2006، ص:140.
[3] – الرحلة في الأدب المغربي: النص، النوع، السياق، د.عبد الرحيم المودن، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، ص:21
[4] – مع البسطاء: 11.
[5] – الرحلة في الأدب العربي: 43.
[6] – مع البسطاء : 10.
[7] – دار المعارف: بطرس البستاني، نقلا عن الرحلة في الأدب العربي، هامش الصفحة 83.
[8] – الرحلة في الأدب العربي: 142.
[9] – مع البسطاء: 11.
[10] – نفسه: 12.
[11] – مع البسطاء: 22.
[12] – نفسه: 28.
[13] – مع البسطاء: 42.
[14] – نفسه: 46.
[15] – نفسه: 10.
[16] – م.ن.
[17] – نفسه: 16.
[18] – نفسه: 19.
[19] – نفسه: 94.
[20] – ينظر في هذا الصدد كتاب “ظاهرة الشعر الحديث” لأحمد المعداوي المجاطي، الصفحات 72-73-74-75-76.
[21] – مع البسطاء: 13.
[22] – م.ن.
[23] – نفسه: 9.
[24] – نفسه: 50.
[25] – م.ن.
[26] – نفسه: 64.
[27] – نفسه: 68-69.
[28] – نفسه : 28-29.
[29] – نفسه: 87.
[30] – نفسه: 20.
[31] – نفسه: 96-97.
[32] – نفسه: 13.
[33] – نفسه: 88.
[34] – في هذا المنحى تتقاطع الرواية مع رواية “كشف المحجوب” للراحل فريد الأنصاري رحمة الله عليه.
[35] – مع البسطاء: 6.