تعاني أغلب مجتمعات العالم اليوم من أشكال كثيرة للعنف، واقع عالمي يعد ربما بكارثة إنسانية توشك أن تنفجر. فهناك مظاهر كثير لهذا الصراع بين الأفراد و الجماعات في كل ثنايا العالم. الحقد و الكراهية و التعصب سواء كان مصدرها العرق أو الدين او السياسة و غيرها تسيطر على مشاعر الأفراد و عواطفهم إلى درجة الاستعداد للقتل أو الموت من أجل الرمز أو اللون أو الدين، حتى أصبحت عواطف الأفراد ربما تتعارض مع أفكار أصل الصراع و الاختلاف. العنف على الأقل في شكله المادي نقط سوداء في تاريخ الإنسان مصدره الصراع الطبقي او الديني… إننا أمام ظاهرة إنسانية ذات أصول طبيعية، يشترك فيها البشر مع أغلب الكائنات الحيوانية الأخرى، غير أن الحضارات البشرية قطعت أشواطا طويلة للحسم مع كل أشكال الصراع و تمييز البشر عن مملكة الحيوان. لكن الواقع يحكي لنا فشل بعض الجماعات و المجموعات البشرية في تهذيب أخلاق أفرادها و كذا إكسابهم طرق العيش على الطريقة البشرية مما ساهم بلا شك في انتشار ظاهرة العنف و الإرهاب عبر خارطة العالم، و لو في أشكال و قوالب مختلفة حسب المكان و السياق الاجتماعي. فأي علاقة لأزمة الاختلاف بانتشار ظاهرة الإرهاب و العنف عبر العالم؟
وجد الإنسان في الكون منذ وقت طويل ربما يحسب بآلاف السنين، ميزته الأساسية هي التنوع الثقافي على عدة مستويات سواء كان هذا التنوع ديني حيث يعبد البشر مئات الآلهة و يتبعون عشرات الأديان،كما يحتوي هذا العالم على تنوع لغوي و اثني ببين إلى حدود صعبة التصديق، اختلافات أخرى على المستوى السياسي و الفكري تضع قوانين و قواعد أخرى للصراع لا يمكن إغفالها. في الماضي كان كل فرد يحس انه وحيد العالم داخل قبيلة أو عشيرة بشرية تحمي وجوده ووجدانه، مع استعداد أولي للصراع مع الأخر القريب منه. كما بين ذلك رواد الأطروحة الانقسامية، خاصة في تطبيقها على المجتمعات القروية في شمال إفريقيا على وجه التحديد، بإحساس الفرد أنه ضد أخيه المختلف عنه. غير أن حضور ابن العم الأكثر اختلافا يفرض توحده مع الأخ….إلى أن نصل إلى توحد أبناء القبيلة ضد أبناء القبائل الأخرى. الصراع داخل هذه المجتمعات القديمة الأولية لم يكن يوما ليتخذ أشكال معقدة مثلما هو عليه اليوم، فتدخل الإعلام بمختلف أشكاله ساهم في عولمة مشاعر الحقد و الكراهية ضد الأخر المختلف في غياب أي استعداد لتوافق أو التقارب في الآراء بين البشر. فنشر خبر يخص جماعة بشرية مختلفة دون مصاحبته بتحليل واقعي يبن أصل الاختلاف يولد لدى أفراد الجماعات الأخرى مشاعر تتطور لتصل إلى حدود الاستعداد التام لشروع في القتل، فبوجود من يبرر إمكانية العنف و القتل الموجهة للأخر ، تصبح بيئة العنف ملائمة لانتشار الطفيليات التي تميل إلى ممارسة العنف و التشجيع عليه بمبررات دينية أحيانا و عرقية لغوية أحيانا أخرى. هناك كذلك استعداد واضح من طرف بعض مثقفي هذه الجماعات لتبرير العنف على حساب الآخر و تبيان ضعف و تخلف الأخر و عدم استحقاقه للعيش في هذا العالم. ودعوة هيحل في هذا السياق واضحة بالتأكيد أن المثقف الحقيقي و الذي يحسن ختم أفعاله و أفكاره ببصمة كونية ذات أسس عقلية كلية، فالمثقف الزائف اليوم يخرب أكثر مما يسعى للبناء سواء عن الوعي أو بدونه، لذلك فرض اليوم على المثقف الحقيقي السعي وراء التخلى عن كل أشكال الخصوصية الزائفة، حيث يبتعد عن عواطفه و ميوله أثناء الخطاب الموجه إلى العامة كما يفترض فيه عدم الانفعال بالنظر إلى قدرة ذلك على التأثير السلبي أو الايجابي في أفراد جماعته لمكانته و قيمته بينهم. لكن ذلك لا يعني التخلي عن الخصوصية الثقافية للجماعة بل القدرة على تقبل الأخر المختلف مع إمكانية الانفتاح على ثقافته لما فيه خير للإنسان. فما ألمع إليه المفكر العربي أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي في كتابه رسائل فلسفية منذ القرن التاسع الميلادي بتأكيده على حاجة الحضارة العربية الإسلامية إلى الأخر المختلف من حيث اللغة و الدين و المتمثل في الإنسان اليوناني، لما لليونان من قدرة فائقة على البحث و المعرفة الحقة في مجال العلوم بقوله ” فمن الواجب ألا نذم أو نحتقر من كان أحد أسباب منافعنا الصغار الهزيلة ” فكيف لنا أن نفكر في قتله أو التخلص منه بكل الطرق لمجرد أنه يعبد إلها أخر غير الذي نعبد نحن. الحضارات الإنسانية اليوم مهما انغلقت لن تستطيع أن تحقق اكتفاءها الذاتي بذلك يصبح من الواجب الأخلاقي احترام الأخر لنعيش داخل عالم يسيطر عليه الكوني مع قدرة الجماعة على الاحتفاظ لنفسها بالخاص و المتميز باعتباره أساس لهويتها. فمؤسسات التربية و الرعاية الاجتماعية اليوم يجب عليها أن تغير من خطابها المنغلق و الانفتاح هي الأخرى على المختلف لبناء الفرد القادر على تدبير الاختلاف مع غيره المختلف، كما يفترض بناء إعلام لا يشتغل فقط على نقل الأخبار، بل السعي وراء المشاركة في بناء الجيل. أن نظرة بسيطة و سطحية للمجتمعات على الخصوص في شمال إفريقيا و الشرق الأوسط، توضح لنا كم نعيش من العنف و الإرهاب – التخويف و ليست الدلالة المنتشرة للمفهوم اليوم في وسائل الإعلام- في الجامعات التي يفترض أن تكون مصدر أساسي لصناعة الإنسان، كما هو الشأن بالنسبة للمساجد و الشارع، المدارس بمختلف مستوياتها، أماكن ممارسة الرياضة،وسائل النقل، الإعلام… كلها أماكن تشهد العنف بشكل يومي تقريبا، رغم الإهمال الرسمي و الإعلامي. في ظل هذا الوقع الدينامي في الاتجاه السلبي، يفترض أن تتحرك مراكز الأبحاث و المجموعات البحثية في الجامعات و ليس تحرك الشرطة و الدرك أو الجنود… فالمقاربة الأمنية لن تستطيع فهم الظاهرة بل ستتم معالجتها عبر عنف مضاد يفتقد أبسط شروط الكرامة الإنسانية. فالعنف ابتداء من أكثر أشكاله خفاء إلى أكثر نماذجه ظهورا سببه على ما يبدو الاختلاف، فعدم قدرة الرجل على تدبير الاختلاف مع المرأة يكون سببا مباشر للعنف، كما توجد ظواهر اجتماعية منتشرة في مجتمعات الشرق الأوسط و شمال إفريقيا مثل الإقصاء و الضياع داخل المجتمع، و كذا التفكك الاجتماعي و عملية الوصم، كلها أسباب قد تؤدي إلى ممارسة العنف و الإرهاب حتى ضد أقرب الأفراد اجتماعيا سواء تعلق الأمر بالأب و الأم أو الإخوة. إننا لسنا أمام شكل واحد للعنف إذ يحق لنا اليوم القول على ما تفعله بعض الدول الأوربية و أمريكا الشمالية مع المهاجرين و اللاجئين، كذلك عنف ضد الأخر المختلف بل يحق لنا تسميته إرهاب ذو بعد اقتصادي سياسي.
الواقع العالمي اليوم في ظل كل هذه التحولات التي ساهمت فيها العولمة بشكل كبير يشهد موجة حقد و كراهية قد تؤدي في المستقبل إلى نفي كل روابط الإنسانية التي تجمعنا اليوم، غير أنه من المفترض إعادة بناء الأفراد على أسس تربوية و فكرية متينة تمنعهم من الإعجاب و التبعية لمن هم أشد تطرفا و نشر للكراهية في هذا العالم. إذ يصعب علينا اليوم العيش دون الآخر ، كما يستحيل بناء العالم الإنساني على أساس الفر دانية المطلقة، غير أن الاختلاف على أسسه معروفة أمر مطلوب و مرغوب فيه لاقتلاع الإرهاب و كل أشكال العنف من جذورها، على أمل أن نعيش في عالم يسوده الأمن و السلم المشترك بين جميع الأمم و الأفراد رغم الاختلافات العرقية و الدينية و كذلك الفكرية، عندها نستطيع القول أننا نمثل الإنسانية و الإنسان في هذا العالم.