كلما تقدم العمر، شعرت أن الأرواح تهدأ أكثر، وأن القلب يبدأ بالبحث عن أماكن هادئة، عن زوايا صغيرة يستطيع فيها الإنسان أن يستعيد أنفاسه بعيدًا عن صخب الحياة، بعيدًا عن إيقاع الزمن الذي لم نصنعه نحن. حتى القرى الجميلة، تلك المحاطة بالنخيل والتي لا تغرب شمسها، تبدو وكأنها تسابق الزمن لتفقد نقاءها وبساطتها، لتبحث عن صور جديدة لا تتطابق مع أصلها، صور ربما لا يتعرف عليها القلب المشتاق، ولا يستسيغها الذهن الذي نشأ على روحها القديمة.
اكذز كانت واحدة من تلك الأماكن النادرة. قرية صغيرة، لكنها تحمل في أزقتها و دروبها وأكواخها حكايات لا تُنسى، وجذورًا تتخلل كل حجر وكل نخلة. وما إن وطأت قدماي شوارعها هذه المرة، حتى شعرت أن المدينة نفسها تغيّرت، أن الزمن ترك بصماته على كل زاوية، وأن كل باب لم يعد في مكانه، وكل شارع يروي قصة جديدة لا تعرفني.
لكن قلبي لم يخطئ. أحسست بالمدينة تتحدث إليّ من خلال زواياها، ألوانها، أصواتها، وروائحها. كل شيء كان يحمل صدى الماضي، وأنا أحاول أن أستعيد ذكريات صيف 2004، عندما كنت أتنقل بين ثانوية إدريس الأول واعدادية النخيل، بين البيت القديم المطل على الوادي والنخيل، وأتجول في أرجاء السوق الأسبوعي يوم الخميس، حيث يحج إليه الناس من كل القرى والدواوير المجاورة.
السوق الأسبوعي كان قلب اكذز النابض. أصوات الباعة تتعالى في الهواء، ينادون بكل انواع الخضروات والفواكه …، الأطفال يركضون بين التجار والحرفيين، والوجوه المألوفة تتصافح بابتسامة دافئة. رائحة الطحين والتوابل والخبز الطازج كانت تتخلل المكان، تذكرك بأن الحياة بسيطة، لكنها غنية بكل ما يحتاجه القلب من دفء وطمأنينة.
السوق لم يكن مجرد مكان للتجارة، بل كان مسرحًا للحياة الاجتماعية، للتلاقي، للحكايات، وللنقاشات الطويلة عن السياسة، الأخبار، والقصص المحلية. كنت أستمتع بالجلوس على أحد المقاعد الطينية، أراقب الناس وهم يمرون، أستمع إلى أصوات الأطفال وهم يلعبون، وأرى كيف تتشابك الحياة اليومية مع التاريخ والثقافة في مكان واحد.
دار الشباب تحت إدارة بادو كانت مركز النشاط الثقافي والاجتماعي في اكذز. هنا بدأنا ندرك معنى الانتماء والحياة الجماعية. كنا نجتمع لنقرأ، لنكتب، لنغني، لنرقص، ولنتشارك أفكارنا وأحلامنا. كم كانت تلك الأمسيات مليئة بالحيوية، حيث نشعر أن المدينة كلها تتنفس معنا. وكم اشتقت لتلك الايام التي كنا نشجع فيها فريق حسنية اكذز، أتذكر أسماء محفورة في الذاكرة: فراجي، عادل انجار، محمد النجار، مراد الزوكاري، حفيظ… وكل صديق من هؤلاء كان يحمل جزءًا من روح المدينة. كل مساء أحد، فوق الجدار الطيني، كنا نتشارك الفرح، الصمت، والضحكات، وكأن المدينة كلها تتوقف لتستمع لنا، لتشعر معنا بنبض الحياة البسيطة.
الأعياد واحتفالات عاشوراء كانت تجربة أخرى لا تُنسى. الشوارع تتزين بالألوان، أصوات الطبول تعلو، الأطفال يلوحون بأيديهم، النساء يلبسن ملابس تقليدية زاهية، روائح الطعام تتخلل الهواء، والناس يجتمعون على الفرح والاحتفال. ساحة المسجد (احواش) كانت تعج بالرقص والغناء، الشعراء ينظمون أبياتهم على وقع الطبول، من شيوخ اكذز واسليم، الزاوية، الرباط، ترماست، انساين، انثلتن، تغروط، تزكين، اسفالن، تنموكالت، تفركالت، وتاليون. كل صوت وكل كلمة كانت تعكس روح الواحة، حياة صافية مليئة بالقصص والحكايات، تقال عبر أجيال متعاقبة.
كنت أحب أن أسير وحدي على ضفاف الوادي، أراقب النخيل وهي تتمايل في النسيم، أسمع صوت المياه وهي تجري بين الصخور، وأستعيد كل لحظة من طفولتي وشبابي في هذه الواحة. اكذز كانت مدرسة الحياة بالنسبة لي، علمتني الصبر والجمال والحنين، كانت الوطن الذي لا يتركنا مهما ابتعدنا عنه. كنت أقف ساعات طويلة، أستمع إلى صدى صوت الطيور، إلى حفيف أوراق النخيل، إلى ضحكات الأطفال، إلى أصوات عامة الناس في الأحياء، وأحس أن كل شيء هنا يحكي قصة، وأنني جزء من هذه الحكاية الكبيرة.
ذكرياتي في اكذز تمتد إلى كل تفاصيل الحياة اليومية: أكشاك السوق، رائحة الخبز الطازج، طيور الصباح، ضحكات الأطفال، أحاديث الاجيال ، صوت الأغاني الشعبية، ضحكات الأصدقاء في الأزقة الضيقة، كل هذه الأشياء صنعت حياة غنية، مليئة بالدفء والإنسانية. حتى الجدران الطينية القديمة التي كنا نجلس عليها في أمسيات الصيف، كانت تحمل معها أصوات الماضي، قصص من عاشوا قبلنا، وشهود على زمن لم يعد موجودًا إلا في الذاكرة.
وحتى الحنين إلى الرياضة كان جزءًا من حياتنا في اكذز. فريق حسنية اكذز كان رمزًا للمدينة، لكل منا قصة مع هذا الفريق، لكل مباراة كان لها طابعها الخاص، لكل لاعب أثره في قلوبنا: فراجي، عادل انجار، محمد النجار، مراد الزوكاري، حفيظ… كانوا أبطالنا ، وجسدوا لنا روح العمل الجماعي، التضحية، والوفاء للمدينة.
وكان لكل حي من أحياء اكذز طابعه الخاص. حي اكذز القصر ، حيث الأصوات الهادئة والحياة اليومية البسيطة، كيف تصنع النساء الحرف اليدوية، وكيف يتحملن صعوبة الحياة مع صبر جميل. سوق الخميس، حيث الصخب والألوان والروائح، والأخبار تنتقل بسرعة البرق بين الناس. الواحة، حيث المياه والنخيل، وحيث يلتقي الأطفال ويلعبون في الطبيعة المفتوحة. كل حي كان يحمل معاني مختلفة، وكل حي كان يضيف جزءًا جديدًا إلى قلبي وذكرياتي.
وفي المدارس، تعلمنا ليس فقط المواد الدراسية، بل الحياة نفسها. تعلمنا الصداقة، الانتماء، كيفية الاحترام، والصبر. أذكر الأستاذة التي كانت تعلمني الشعر، والكاتب الذي جاء ليحكي لنا عن تاريخ المدينة، والأصدقاء الذين شاركوني ضحكات لا تُنسى، ومغامرات صغيرة عبر الأزقة والجدران الطينية.
عندما أتأمل كل هذه التفاصيل الآن، أشعر أن اكذز تتحدث إليّ، كل زاوية فيها لها صوت، كل شارع يروي قصة، كل نخلة تحمل ذكرى. المدينة ليست مجرد مكان، بل هي ذاكرة حية، تحمل في طياتها تاريخ الأجيال، وجمال الطبيعة، وروح الناس، وحنين الطفولة والشباب. اكذز في خاطري ليست مجرد قرية، بل قلب نابض بالحياة، مدرسة للإنسانية، وطن داخلي لا يمكن أن يتركه أحد، مهما ابتعد.
كل ركن، كل وادٍ، كل نخلة، كل سوق، كل دار، وكل وجه من وجوه أهلها، يحملني إلى زمن جميل وبسيط، حيث كانت الحياة نقية، مليئة بالدفء، والوجوه المألوفة، والصداقات الحقيقية، والفرح الذي لا يشوبه شيء سوى صدق اللحظة. اكذز التي في خاطري، هي اكذز التي أحببتها وأحملها معي، التي صنعت جزءًا مني، وستظل دائمًا، الأرض التي تناديني في كل لحظة، التي تجعلني أستعيد نفسي، وأحتفظ بالحنين والدفء والذكريات الحقيقية للحياة الواحية.
ذاكرة اكذز / رضوان لحميدي
زاكورة نيوز البوابة الأولى للأخبار في زاكورة و في قلب الجنوب الشرقي المغربي