عبد الحميد بوزيد
استمرت البشرية في استغلال الطبيعة وتطويعها بعد الطوفان العظيم، وحققت بعده إنجازات سعت من خلالها إلى استغلال ما يمكن استغلاله لفائدة الكائن البشري.
و ارتكبت عبر مسار طويل من التكيّف العلمي Adaptation scientifique حماقات عديدة، في نظرنا، لكنّها خدمت الطبيعة على أية حال، ومن تلك الحماقات نذكر الحرب، لقد اشتغلت الحرب لخدمة التوازن الطبيعيL’équilibre naturelle ، فلولاها لانقرض الجنس البشري بطريقة درامية.
وصلتنا العديد من المقالات التي تتبادل فيها الصين الاتهامات مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومجملها تتعلق بفيروس تم صنعه داخل المختبر لتحديد الشرطي الجديد الذي سيوجه العبور عبر العالم، وذلك بنسف اقتصاد بعض الأمصار وتفكيك الاتحاد الأوروبي والانتقام من المختلفين، ولكلّ طرف من الطرفين أيديولوجية تبرر اختياراته إذا كان الأمر متعلقا بحرب بيولوجية مستترة استعملت فيها أسلحة الدمار الشامل لتوجيه الجنود وتفكيك الاقتصادات لتوجيه أيديولوجية الدول مستقبلا.
إذا كان الأمر مرتبطا بحرب بيولوجية، فإنها قد خرجت عن السيطرة أو أريد لها ذلك، فالتحكم العالمي الذي أنتج مفاهيم كالحكامة والتدبير والتنمية وتحديد النسل سيستفيد من تناقص عدد سكان العالم أكثر مما كان متوقعا، إذ سيسهل ،إذا ما استمر الوباء ونسف أعدادا مهمة من الأفراد والجماعات – وهذا ما لا نرجوه-، توجيه الجماعات والتحكم فيها بعد انجلاء الوباء.
أمّا إذا كان الأمر مرتبطا بفيروس طبيعي، فالطبيعة انهزمت أمام قوة العقل البشري مرارا، ولا شكّ في قدرته على هزمها حتى فيما يتعلق بفيروس كوفيد 19، لكن الخطر الأكبر لا يتمثل في الفيروس رغم الدعاية العالمية التي تغيأت التحذير منه.
الخطر مزدوج، خطر الفيروس وخطر تداعيات انتشاره التي أظهرت أنّ طبع الإنسان يغلب تطبّعه، فالمحرك الأساسي لوجدان الشعوب اليوم لا يكمن في إنسانيتهم وإنما في غريزة طبيعية قديمة تسمّى بغريزة البقاء، لقد قتل السرطان والإيدز ملايين البشر، لكن تمثلنا للمرضين لا يضاهي حجم الخوف والهستيريا المرضية التي نشأت عن فيروس كوفييد 19، إنّ الإيدز مثلا لا يقتل الجماعات عشوائيا، لذلك تظل إصابة فرد به مجرّد احتمال إذا عاشر مريضة بالإيدز مثلا، وأمرا مستبعدا إن لم يقم بذلك.
لقد طفت غريزة البقاء على السطح، وسيصاب العديد من الأفراد في الأيام القادمة بصدمة الحضارة حينما يستيقظون على غرائز طبيعية تُطفئ عقولهم وتنسيهم كلّ ما حققته البشرية من تقدّم نظري في منظومة الأخلاق والإنسانية.
الرأسمالية في خطر، ستنهار أسهم الشركات في البورصة وستنقص نسبة إنتاج العديد من المواد الأساسية أمام احتكار البعض لها، وسيحصل تراجع إيجابي في عدد السكان بقوانين الطبيعة وسلبي بقوانين الإنسان، ستجد كبريات الدول الرأسمالية نفسها أمام مأزق توفير المواد الغذائية الأساسية لشعوبها، فتعود بما أوتيت من معدّات إلى تنفيذ حملة كولونيالية جديدة سيكون الهدف منها صدّ الآخرين الهاربين من المجاعة ومنعهم من الانضمام إلى صفوف مواطنيها.
جميل أن نتفاءل، فالمبادرات الإنسانية في تزايد، لقد انتصرت قيّم الاشتراكية في عزّ الأزمة، وواجهت الصين بؤرة الوباء بتأميم العديد من الشركات، وهو ما اعتبره البعض مبررا لاتهامها بابتكار الفيروس، أي أنّ الحزب الشيوعي الحاكم سعى منذ البداية إلى تجسيد مخطط يحرر به اقتصاده من احتكار الشركات الأجنبية.
أخطر ما في العالم هو غريزة البقاء وسياسة التحكم.
فغريزة البقاء تنفي وجود الآخرين باحتكار أسباب العيش للنفس والأسرة، بينما تستطيع سياسة التحكم ابتكار سلاح بيولوجي يذهب ضحيته أبرياء كثيرون بغية الاستمرار في التحكم في سياسة العالم واقتصاده إذا تعلّق الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية أو الصعود إلى مركز يسمح لها بذلك إذا تعلّق الأمر بالصين.
كلّ ما تقدّم يتعلّق بالجائحة كوفييد 19، أي الفيروس على المستوى العالمي، أما الوباء كوفيد 19، أي الفيروس على المستوى المحلي، فيجب ألا نجعل من تفشيه مدعاة للسخرية وإيقاظ سذاجتنا فيما يتعلّق بفهم النص الديني والبكاء على الماضي، نحن أمام وباء فرض نفسه على الجميع، فلنترك الرثاء والتباكي جانبا، ولنعمل على تكثيف الجهود بكلّ عقلانية ونكران للذات حتى نتغلّب عليه، والخطوة الأولى التي يجب الاستمرار في تبنيها هي سياسة العزل المحتمل، إلى أن نقطع سلسة الفيروس بحصر عدد المصابين به باتباع قواعد الوقاية. ويقع على عاتق الدولة في هذه الظرفية الحرجة، أن تُخضع السوق الوطنية للمراقبة بغية التصدي لتجار الأزمات المتاجرين بمأساة الآخرين، وتضمن للجميع الحقّ في الانضباط لحالة الطوارئ بتوفير الأساسيات عن طريق توجيه ميزانية الدولة لما يتلاءم والوضع الهش الذي تعيش في ظله فئات عديدة من المجتمع، ودعم البحث العلمي للمساهمة في النهضة العالمية لإيجاد لقاح ضد فيروس كوفيد 19، والإبقاء على استمرارية المجالات الحيوية التي تهم التغذية والتمدرس بصيغة تناور الفيروس الخطير.
إننا أمام أيام فوضوية ويصعب التنبؤ بما سيحدث، لكننا نلاحظ أنّ وقائع عديدة في الماضيين البعيد والقريب تدعونا إلى استشراف المستقبل وعدم اتخاد خطوات غير مؤسسة على إجراءات تضمن نجاحها بنسبة مئوية مقبولة إن لم نقل مكتملة حتى لا يظهر شبح آخر لن نستطيع مجابهته وهو شبح الهيستريا الناتجة عن الخوف من الفيروس والمجاعة.