د/ محمد بنلحسن
خلال الحراك الشعبي العارم الذي عرفه عالمنا العربي مشرقه ومغربه، كانت طموحات الجماهير، وعموم الموطنين والمواطنات، كبيرة وهائلة، كما أن سقوف المطالب كانت تطاول عنان السماء، وكان الكل يراهن على الخيار الديموقراطي الحداثي من أجل تحقيق الطفرة الكبرى التي بمكنتها إلحاق أمتنا وشعوبنا بمصاف الدول الرائدة في الاقتصاد، والاجتماع، والسياسية، ناهيك عن الثقافة والحضارة، غير أن انتقال سِيَاسِيِينا، وأحزابنا، وائتلافاتها وتحالفاتها، من حيز الوجود بالقوة إلى مجال الوجود بالفعل، أظهر بالملموس بعد سنوات غير يسيرة من ممارسة تدبير الشأن العام، أن الهوة لاتزال عميقة وسحيقة، بين المأمول والمتحقق على أرض الواقع؛ بين المشروع المجتمعي الكبير والواعد، والمنجز فعليا على أرض الميدان؛ بين الشعارات الرنانة والهائلة، وإكراهات مواجهة المطالب اليومية؛ مما أصبح يدفع المتابعين والملاحظين، والرأي العام، إلى التساؤل الجدي والجذري، حول جدوى إرساء الديموقراطية في بلداننا العربية بعد عملية التغيير، وعن فوائدها المادية الملموس على أرض الواقع .
لماذا فشلت النخب السياسية، التي كانت مبعدة ومهمشة قبل هبوب رياح الربيع العربي، عن تحقيق الإقلاع الاقتصادي والرفاه الاجتماعي الذي ظلت الشعوب، والطبقات المتضررة في مجتمعاتنا العربية تحلم به، وتتوق لنسائمه ورياحينه؟
هل من المعقول البحث عن حصائل للديموقراطية في عالمنا العربي والإسلامي، وفسيلتها لازالت حديثة العهد بتربة بيئتنا ومناخها المتقلب وغير القار ؟
هل المظاهرات والاحتجاجات التي أصبح لا يخلو منها أي قطر، أو مدينة، أو شارع في مدننا العربية، لاسيما تلك التي تفاعلت مع التحولات الجارفة والمتسارعة؛ التي أتت بفعل موجة الربيع العربي، دليل على إصابة الناس بخيبة أمل بعد عقود من الانتظار القاتل ؟
أين يكمن الخلل، هل في الديموقراطية ذاتها، أو في النخب السياسية التي حملت مشعل التسيير في عالمنا العربي؟
لابد من التحذير في البدء بأن إجراء المقارنة بين الغرب وعالمنا العربي بالنظر إلى المستويات القياسية التي بلغها على الأصعدة كافة، ليست صحيحة وموضوعية إذا حاولنا من خلالها الربط الآلي بين الديموقراطية والرفاه الاقتصادي والاجتماعي الذي تحقق هناك…ذلك أن الغرب المتقدم الآن، لم يبلغ هذا الشأو البعيد من الازدهار، من جراء ارتفاع نسب النمو المحققة؛ بمجرد تبنيه الخيار الديموقراطي نهجا سياسيا، بل من خلال جهود كبيرة وكثيرة ومضنية دامت آمادا زمنية بعيدة …
وبناء عليه، فالإقلاع الاقتصادي وانعكاساته الإيجابية على مجالات الحياة كلها، وفي المقدمة المجال الاجتماعي، ليس رهينا بمدى إرساء الديموقراطية خيارا سياسيا لا رجعة فيه، بل من خلال سعي الدول الرائدة اليوم في الغرب المتطور إلى الإعلان عن ثورة صناعية واقتصادية وثقافية بشكل متكامل وفي أحياز زمنية متقاربة للغاية.
هل تتوفر مجتمعاتنا وبلداننا العربية على الشروط نفسها ؟
إن استعجال الجماهير العربية، وعموم المواطنين والمواطنات، محاصيل استنبات الديموقراطية في عالمنا العربي، وبحثهم عن النتائج المرضية والمقنعة التي يمكنها تحقيق إقلاعنا الاقتصادي؛ مما يمكن فئات المجتمع، على تنوع طبقاتها من العيش الكريم، وتحقيق الاكتفاء، وارتفاع الناتج الداخلي الخام للإفراد، ليس مقدورا عليه في بضع سنين من بدء عملية الانتقال الديموقراطي .
لماذا ؟
من الإنصاف في البدء القول إن الأحزاب السياسية التي آلت إليها مقاليد التدبير الحكومي بعد الربيع العربي في الدول التي استجابت للحراك الاجتماعي والجماهيري، قد حالت حواجز داخلية وخارجية، بينها وبين بلوغ أهداف الديموقراطية البعيدة المدى، والمتمثلة أساسا في الارتقاء بالمعيش اليومي للطبقات والفئات المحرومة، ومحاربة الفقر والهشاشة الاجتماعية، وتوفير السكن اللائق للعاجزين عن اقتنائه بأسعار باهضة، ناهيك عن إيجاد مناصب الشغل لعشرات بل مئات المعطلين وخريجي الجامعات ومؤسسات التكوين، دون أن نغفل توفير البنيات التحتية الضرورية واللائقة للاستشفاء المجاني …دون نسيان القدرة على تخفيض عجز الميزان التجاري، والتخفيف من عبء الدين العمومي للخارج…إلخ.
لقد تسلمت كثير من الحكومات المنتخبة دستوريا زمام التدبير السياسي والاقتصادي والاجتماعي وسط ظروف اقتصادية صعبة، سواء في الداخل أو في الخارج…لقد تزامن الربيع العربي مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي عصفت باقتصادات عالمية في أوروبا وأمريكا، كما أن الأحوال الاقتصادية الداخلية للبلدان العربية التي شهدت تحولات سريعة ، لم تكن في أحسن حال …
هذه الوضعية الاستثنائية كان تقابلها رغبات عارمة للمواطنين والمواطنات الذين سئموا سنوات التدبير الأحادي الذي ظل غارقا في البيروقراطية المقيتة والفساد والزبونية واقتصاد الريع …إلخ
لم تكن الطريق سالكة إذا أمام الهيآت السياسية التي حازت تأييدا شعبيا عارما بعد تنظيم أول انتخابات تشريعية نزيهة وذات مصداقية في البلدان التي تجاوبت مع موجة الربيع العربي .
لكن هل كانت الأحزاب السياسية الفائزة في أول انتخابات تشريعية مشهود لها بالشفافية في عالمنا العربي، مُهَيأة نفسيا وسياسيا لممارسة مهام التسيير والتخطيط والتنفيذ على أعلى مستوى، علما أن جلها أمضى سنوات ذوات العدد في مقاعد المعارضة البرلمانية، وبعضا الآخر كان قابعا إما في السجون أو في المنافي ؟
ولو افترضنا أن تلك النخب السياسية كانت فعلا على استعداد للاضطلاع بالمهام الجديدة المترتبة عن الفوز في الانتخابات التشريعية، وتشكيل الحكومات، فهل توفرت لها الطاقات والخبرات من الأطر، والكوادر المدربة، والمؤهلة، لمباشرة العمل الحكومي في الوزارات ؟
إن الظروف الاقتصادية الاقليمية والدولية التي انبثقت فيها الحكومات الجديدة ما بعد الربيع العربي، لا تقتضي أن نتوفر على أحزاب سياسية ونخب وكوادر لهم جميعا القدرة والكفاءة على تحمل المسؤولية الجديدة، بل من الضروري والمؤكد أن تكون لدينا طبقة سياسية من المدبرين الأكفاء؛ الذين يملكون كفاءات خاصة؛ ومهارات استثنائية؛ من أجل قيادة مشاريع الإصلاح خلال الأزمات الاقتصادية، وامتلاك روح المبادرة لتجاوز العقبات والمثبطات …
مع الأسف الشديد، لم يستطع الفاعلون السياسيون الذين نالوا ثقة شعوبهم خلال التشريعيات، من تجاوز الوضعية المأزومة التي تسلموا فيها مقاليد تدبير الشأن العام.. وقد آثر بعضهم تعليق فشله على مشجب المعارضة السياسية في البرلمان، أو ربطه بالعراقيل التي تضعها مجموعات الضغط التي كانت لها مصالح ترى في الكيانات السياسية الجديدة تهديدا لمصالحها المتجذرة …
إن الحصائل المتواضعة نتيجة البطء الشديد والقصور البنيوي في مجابهة معضلات التنمية في بلداننا العربية التي تفاعلت مع موجة الربيع العربي، كل ذلك ساهم في صناعة تمثلات سوداء قاتمة لدى المواطنين والمواطنات الذين لم يلمسوا تغييرات عميقة في حياتهم اليومية على الرغم من كون الطبقة السياسية التي نالت ثقتهم هي التي بيدها أمر تسيير وتدبير القطاعات الاقتصادية والاجتماعية التي لها أثرها البين على معيشة المواطنين ورفاهيتهم ….
النتيجة المحزنة التي يمكن أن يصطدم بها الرأي العام في مجتمعاتنا العربية؛ تتمثل في كون الديموقراطية ليست حلا سحريا لجميع مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية…
إن الديموقراطية سلوك حضاري وممارسة راقية لا يمكنها أن تصلح بمفردها ما أفسدته سنوات التردي والتخلف والاستبداد وسوء التدبير ونهب الثروات والخيرات…
إن ما أخشاه على مجتمعاتنا العربية، سواء السياسيين المدبرين والشباب، أن تظل متشبثة بظاهر الحضارة الغربية وقشورها، غير قادرة على استثمار إنجازاتها العلمية والتكنولوجية والثقافية…وغير مؤهلة لتوظيف الإمكانات التي يتيحها الخيار الديموقراطي من أجل بعث الدينامية الاجتماعية والاقتصادية.
ولئلا ننشر التشاؤم بين الناس، يجب الاعتراف بأن تبني الديموقراطية في عالمنا العربي، خيارا استراتيجيا في التداول على السلطة، يعتبر مدخلا سليما وصحيحا في السياق الراهن، لكن وجب الاعتراف بالمقابل بأن الديموقراطية بمفردها، مثل حسن النوايا، لا يمكنها أن تؤول بمجتمعاتنا لبر الأمان والرخاء والازدهار …
علينا أن نعتبر إرساء الديموقراطية وقيمها الكونية في بلداننا الباحثة عن التنمية المستدامة، نقطة انطلاق أساسية، لكن من الضروري أن تواكبها وتسير بموازاتها، نهضة شاملة للقضاء على الأمية الحرفية والأمية الثقافية والأمية التكنولوجية، إضافة إلى حاجاتنا اليوم في العالم العربي، إلى كفاءات سياسية واقتصادية لها قدرات خاصة على التخطيط والتدبير والتنفيذ، من أجل الانطلاق من أوضاعنا والانتقال إلى النماذج المتطورة في الاقتصاد والتنمية مثلما حصل مع الدول الأسيوية التي يطلق عليها النمور الأربعة تايوان، سنغافورة، هونغ كونغ وكوريا الجنوبية …
إن مأساتنا اليوم ونحن نتبنى الديموقراطية سلوكا سلميا وحضاريا في التداول على السلطة دون تحقيق مستويات النماء والتقدم المطلوبين، أخطر وأعمق من أحوالنا في الماضي؛ حيث كان الرأي الواحد الانفرادي الأكثر سيادة وهيمنة.