يوسف عاصم
“النساء كالحكام، قلما يجدن أصدقاء مخلصين”
“كنوز العالم بأسره لا تساوي المرأة الفاضلة”
“يفسد الزواج عندما تصبح الدجاجة ديكا”
” حتى الأعمى يمكنه أن يرى المال”
لن أخد معي أي أحد من الزملاء الصحافيين من فريق عملي في الجريدة. فالأمر لا يتعلق بالبحث و التحقيق في قضية من القضايا التي تشغل الرأي العام الوطني و الدولي، و إنما بالبحث عن كائن أخر قد يكون من عالم أخر و من زمان أخر يختلف كليا عن عالمي و عن زماني. إنني أبتغي إنسانا خلق لكي أعرفه و يعرفني و لكي أتقرب إليه و يتقرب إلي حتى و لو اختلف معي في كل شيء و حول كل شيء. فالاختلاف في الدين و اللغة و الثقافة لن يقف عائقا في وجهي و أنا الذي طالما أمنت بأن هذا الأخر مرآتي و أنا مرآته و بأن الأرض هي أمي و أمه. و لو كان هناك اختلاف و تنوع بين الناس، إنما جعلا لإبراز و إظهار عظمة الباري تعالى في إبداعه لأن الأصل في الخلق و الخليقة وحدة واحدة تفرع منها كل شيء و تنوعت لحكمة سماوية وردت في الكتب المقدسة و تفيد بأن الناس نظراء و إخوة في الإنسانية. و كلما تقاربوا و تعاونوا و تحابوا إلا و استشعروا و استحضروا معاني السماء ودروسها.
إنني أريد البحث عن العلم و الحب حتى لو كانتا في الصين. و من أجل هذه المهمة أنا بصدد البحث عن امرأة ولكن ليست أية امرأة، و إنما امرأة صينية بالدار البيضاء و يجب أن تكون بمواصفات جميلة و فريدة و حتى إذا ما و جدتها سأدعوها لتناول شاي صيني معي معد و “منعنع” بطريقة و نكهة مغربيتين ترمز إلى التجانس و التلاؤم بين مواد مختلفة انصهرت فيما بينها لتعطي شرابا رائعا و لذيذا بغض النظر عن أي شيء أخر .و قبل أن أبدأ رحلة البحث، توجب علي أن أرجع إلى كتاب “رحلة ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار و عجائب الأسفار” لكي تكون لدي نافذة أطل و أتطلع من خلالها على العالم و لكي أرى الصين و شعبها و نسائها بعيون إبن بطوطة المغربي.
ارتديت قميصا صيفيا أبيض اللون و سروالا قصيرا و حذاء رياضيا و قبعة أمريكية الصنع و وضعت نظارتين شمسيتين و كأنني سائح و غريب في بلادي. وحملت معي أيضا بطاقة تعريفي الوطنية كي لا أقع في بعض المشاكل مع الشرطة إذا ما اقتربت من أية امرأة صينية هنا بالداربيضاء وكذلك بعض النقود دون أن أنسى هاتفي النقال. لم تكن وجهتي محددة بعد و لم أعرف من أين و كيف أبدأ، و كيف أنطلق في البحث و أنا الذي كثيرا ما تعرفت على نساء كثيرات و كتبت فيهن القصائد الشعرية و التي غالبا ما كنت أمزقها و أحرقها أمام عيني الدامعتين حتى لا أحترق من داخلي كلما فكرت في نصفي الأخر و في تلك المرأة التي أريد. و صلت إلى “بازار ” صديقي إبراهيم بالحبوس و أخبرته عن الهدف من مجيئي إليه. لكن، لحظي العاثر، أكد لي بأن هذا الموسم ليس سياحيا بامتياز و أنني لن أصادف أية امرأة صينية هناك في “بازاره” و لا بجواره، المكان المعروف بقدمه و بهندسته المعمارية الشرقية و الذي يجذب الزائرين من كل أنحاء العالم. احتسيت الشاي و أرشدني إلى مكان معروف ” بقيسارية الشينوة” و هو بمثابة مجمع يتواجد الصينيون به بكثرة و يتاجرون في بضاعتهم مع استخدامهم لبعض المغاربة كوسطاء مع الزبناء الذين لا يتحدثون اللغة الصينية ولا يتجاوبون معهم إلا بفرنسية غير سليمة أو ببعض كلمات الدارجة المغربية.
” كل ابتسامة تجعلك أصغر بيوم”
قبل زيارة “قيسارية الشينوة”، تعلمت بعض الكلمات و العبارات الصينية و حفظتها عن ظهر قلب لأتواصل بها مع “مطلوبتي”. لهذا السبب، قررت أن أجوب الدار البيضاء طولا و عرضا لأيام بل لأسابيع لأنني لم أكن أبحث عن بضاعة. كنت أبحث عن كيان أخر و عن ظل امرأة أريد أن أتودد و أسكن إليها كلما احتجت إلى ذلك. كنت أريد أن أرى الابتسامة لأبتسم. حاولت أن أكون مبتسما و جذابا كلما هممت “باصطياد” إحداهن حتى أبدو شابا يافعا ممتثلا للحكمة الصينية التي تقول: ” كل ابتسامة تجعلك أصغر بيوم”. و أنا أبحث في كل شوارع و طرقات الدار البيضاء وأحذق بكلتا عيني هنا وهناك لأرى و أجد شيئا يهديني إلى عنوان امرأة صينية، فإذا بي، بعد عناء كبير، أقف أمام امرأة بملامح آسيوية و أتحدث معها، فلا تجيب. لم أعرف هل كانت صينية أم يابانية أم كورية.
“النساء كالحكام، قلما يجدن أصدقاء مخلصين”
لم تنفعني كل اللغات التي تعلمتها ولا تلك الطرق العفوية التي أخذتها من مدرسة “الحياة” في الحديث مع أي كان بدون مقدمات. استعملت الإشارات و حاولت أن أتواصل بكل شيء، لكنني لم أفلح لأنني كنت ذلك الأخر الغريب. تحدثت بلغة قلبية و إنسانية مجردة من كل شيء و كأنني أنجذب فجأة إلى جمال وردة صينية لأتقرب منها و لأتفاعل معها وجدانيا و أشم رائحتها دون أن أمس براعمها. كنت أنتظر أن أعرف كيف أبدو، أنا المغربي، في مخيلة الصينيين و الصينيات و الذين طالما و صفهم إبن بطوطة بكل ما هو جميل و حسن. تربطنا بالصين، في الحقيقة،و شعبها علاقات تاريخية و اقتصادية و بضائعهم غزت أسواقنا كما غزت أسواق العالم ككل
لابد من الإشارة إلى أنه لا يوجد تمايز بين الأسماء عند الصينيين. فالأنثى يمكن أن تسمى بإسم الذكر و العكس صحيح. لم تعرف ’تولاي’ و لا صديقها جون عن ماذا كنت أتحدث عندما دخلت المطعم الذي يعملان فيه. الاثنان كانوا منشغلين بهواتفهم المحمولة و لا يتواصلون إلا باللغة الصينية. لم أرضى بمغادرة المكان حتى أخد بعض المعلومات التي جئت من أجلها مرة أخرى بعد أن إلتقيت بمغربي و مغربية يشتغلان هناك و لم يسمحا لي بأخذ بعض الصور. كانت كلتا عيناي لا تتوقف عن النظر في كل ما يؤثث و يزين المكان من ألواح فنية مصبوغة في الغالب باللون الأحمر الصيني. لم أعرف سر تلك الكلمات المرسومة بشكل فني على الجدران. لكن ما كان يحيط بي من تحف فنية و زخرفيه شدني بشكل كبير إلى إستحضار حضارة الصين و تاريخها العريق و الذي كثيرا ما يلهم المخرجين و السينمائيين في صنع أفلامهم التي تجوب العالم و تحصد الجوائز تلو الجوائز. بعض اللوحات الفنية أذهلتني لإستقراء و سبر مضامينها و كأن هناك صراع على السلطة و كأن هناك خيانة تقف و رائها النساء في القصر في هذه الصورة أو تلك. لم أتوقف عن استحضار التاريخ الصيني و صراعاته حتى حضر نادل مغربي و سألي عن مرادي. لم أكن أتوقع أن كبير الطباخين هناك يتحدث بدارجة مغربية “فصيحة” جدا. أخبرني بأنه لم يكن يعرف المغرب و لم يكن يسمع به قبل مجيئه و بأن الوجبات المغربية تفقد كل موادها من بروتينات و فيتامينات غذائية بسبب كثرة طبخها فوق النار. عندما سألته عن المرأة الصينية التي تعيش و تعمل بالدار البيضاء إذا ما كانت تحضر من وقت لأخر وجبات مغربية، نفى بالقطع ذلك.
لم أستطع استمالة أية امرأة صينية خارج المطعم و بدا لي الأمر و كأنني بصدد اختراق “سور الصين العظيم” إذا ما فلحت في الحديث مع إحداهن. لم تكن أية واحدة منهن تبحث عن صديق لكي ترحب بصداقتي ” فالنساء كالحكام، قلما يجدن أصدقاء مخلصين”. عندما تنعدم الثقة، يصعب التواصل ثم التعامل و خصوصا مع المرأة التي قد تستنفر كل حواسها حتى لا تقع ضحية أو فريسة في يد رجل مجهول مثلي.
“كنوز العالم بأسره لا تساوي المرأة الفاضلة”
لم تكن سونيا إلا امرأة صينية تدير دكانا لبيع الزهور.عندما أخبرتها الفتاة المغربية التي تعمل معها بأنني أريد الحديث معها، أطلت بابتسامتها و قوامها الرشيق و بدت لي ناضجة. باغتها بالحديث بالإنجليزية لشرح الغاية من زيارتي. طلبت مني أن أتكلم بالفرنسية عوض ذلك. وأنا أسألها، اعتذرت مني ألا تجيب عن شيء حتى تهاتف زوجها المغربي. كانت تريد أن تأخذ الإذن منه في كل شيء حتى يعرف ماذا يحدث و هو غائب. أية أخلاق نبيلة لهذه المرأة الصينية التي تحرص على إخبار زوجها عن لقاء لن يدوم حتى عشرة دقائق و في مكان عام. لم تكن هناك زهور حقيقية في دكان سونيا و جعلتني الزهور البلاستكية التي تملئ المكان أشعر أن سونيا هي الزهرة الحقيقية . تساءلت أيضا عما إذا كانت هناك نساء حقيقية في هذا العالم الذي مسخ فيه كل شيء و أصبح كل شيء يفقد طبيعته. بعد أن كتبت لها بعض الأسئلة باللغة الفرنسية و قرأتها لها كما طلبت لأنها كانت تريد أن تجيب عنها بمعية زوجها في البيت. كان اللقاء الثاني بعد ثلاثة أيام لاستلام الأجوبة. تأسفت لأن زوجها، السي محمد، لم يسمح لها بذلك. كانت سونيا تتحدث بأخلاق عالية و تظهر على أنها امرأة حقيقية رغم كل تلك الأزهار البلاستيكية المزيفة التي تحيط بها. أخبرتني بأنها مسلمة و بأنها لن تفعل شيئا دون استشارة زوجها. ربما هي السعادة الزوجية التي تعيشها مع زوجها ما يجعلهما ينأيا بأنفسهما عن إخبار أي متطفل بسر ذلك.
” يفسد الزواج عندما تصبح الدجاجة ديكا”
في “قيسارية الشينوة” بحي مديتيل قرب درب عمر المعروف برواجه التجاري الكبير، عملت على رصد تحركات النساء الصينيات و قمت بزيارتهن في المحلات التجارية التي يعملن فيها لأستطلع كيف يتاجرن و يعشن و يتعاملن مع الزبائن. أغلب الصينيات القائمات على التجارة كنَ متزوجات بأصحاب المحلات. فالزوج الصيني لديه مشاريع و أشغال أخرى. لم تنفعني “نيهاو و هيوينغ” و بعض الكلمات الصينية الأخرى. بدت النساء الصينيات متقوقعات و منغمسات على أنفسهن يدردشن في النت عبر حواسبهن و هواتفهن الذكية. و كلما ألححت بالسؤال إلا و يأتيني أحد المستخدمين أو المستخدمات المغاربة ليعرف لماذا أنا هناك. بدت لي (اسم صيني) تنظر إلى صديقتها الصينية و تتحدث معها بالصينية و كأنها تقول لها ماذا يحكي هذا. لم تكن هناك أية واحدة تتحدث بلغة
اعرفها. حتى الابتسامة التي كنت أحرص على مشاهدتها فوق الأفواه و الشفاه الصينية لم تظهر. ربما كنت غير مرغوب فيه و ربما كان هناك شيء أخرو كان علي أن أعرفه. استحسنت الأمر عندما بدأ لحسن، الطالب الجامعي العامل لأكثر من ست سنوات مع كريستن و زوجها في محل يبيع المحفظات المدرسية الصينية الصنع، يشرح لي ألأسباب التي تكمن وراء معاملتهن تلك و على أنهن كثيرا ما خضعن للسرقة و ضاعت أموالهن و حواسبهن ليس فقط بسبب معاملتهن التجارية و لكن من طرف المستخدمين و المستخدمات المغاربة لديهن. و كل هذا و غيره، يجعلهن منطويات على أنفسهن و يتبعن الأوامر من أزواجهن لأنهن كغيرهن من المواطنين الصينيين يؤمن بالقائد و صفته و يخضعن لأوامره. و القائد في هذا المقام هو الزوج الذي يجب أن تمتثل الزوجة لأوامره و إلا “يفسد الزواج عندما تصبح الزوجة ديكا”
انتظرت لساعات طوال حتى أتى الزوج. جلس بجانب زوجته و هو يدخن و بدا منزعجا شيئا ما من قلة الرواج التجاري في هذه الأيام. لم يكن الزوج يتحدث بفرنسية جيدة، لكن لحسن تواصل معه بطريقته الخاصة حتى تحدثت كريستين معهما و عرفت بعدها أنها تحب “الطاجين” المغربي و تأكله إذا ما استضافها أحد لكنها لا تحضره في بيتها و لم يسبق لها أن لبست القفطان المغربي وبأنها كذلك لا تعرف شيئا عن تاريخ المغرب و رموزه و تجهل من هو ابن بطوطة. و هذا ما أدلت به لي “مايا” و أكدته في ما بعد.” الصينيات في قيسارية الشينوة غير مثقفات و لا يعرفن شيئا عن المغرب و حضارته، فهن أتين من البوادي وتوجد لدى أغلبهن قرابة مع المالك للدكان والتجارة. هن يعرفن المال و يعبدنه كباقي النساء بحكم تأثرهن بالرأسمالية و نظامها”: يزيد لحسن في التوضيح.
” حتى الأعمى يمكنه أن يرى المال”
وأنا ابحث عن امرأة صينية في الداربيضاء، كنت أحاول جاهدا أن أجد تعاليم بوذا و فلسفته و تعاليم ماوتسي تونغ و أفكاره و حكمة الصين و دروسها. و ها هي الصين الآن تكتسح أسواق العالم و تغزوه اقتصاديا و تجاريا. فالمال هو المحرك و الحافز الذي يجعل كثير من النساء الصينيات مثل تولاي و لي و كريستين و مايا يهاجرن أوطانهن و يأتين إلى هنا في المغرب للتجارة و العمل دون أن يفقدن أي شيء من هويتهن و ثقافتهن. فهن يطبخن و يأكلن و يستعملن هاشي ( أعواد الأكل) و يلبسن الكيمونو و “الشورت” القصير بطريقتهن الصينية دون الإندماج و الإنصهار في ثقافة الدول المستقبلة لهن. هن ناشطات و بارعات ولا يعرفن سوى العمل و جني المال بصحبة رجالهن. لا يضيعن الوقت معك إذا ما دخلت دكانهن، هنا، بالدار البيضاء فقط لتسأل عن شيء لا يربحن منه المال. و أنت تقف أمامهن دون أن تبتاع منهن شيئا، يتجاهلنك و يتركن المستخدم أو المستخدمة المغربية يتعاملوا معك و يشرحوا لك كل ما تريد الاستفسار عنه. فهن يؤمن بأن” حتى الأعمى يمكن أن يرى المال” الذي يبهج النفوس و يفرحها بما كسبت و لذلك لا ضير إذا هاجرن و تغربن و ابتعدن عن دفئ أوطانهن و كسبن و صنعن ثروتهن.
لم أجد المرأة الصينية التي بحث عنها لأكثر من أسبوعين في كل ربوع الدار بيضاء و لم أصادف أن وقعت عيني على واحدة نصفها صيني و النصف الأخر مغربي. رغم أن سونيا كانت مغربية إلى حد ما، فإنها لم تكن تلبس الجلباب أو القفطان المغربي في دكانها، و هي المتزوجة من رجل مغربي. و بحثي عن نصفي الأخر، عن المرأة، عن ذلك الكائن اللطيف لن يقف هنا، بل سأستأنفه مرة أخرى للبحث عن إنسانة أخرى من عالم أخر وربما من زمان أخر و من جنسية أخرى إذا ما وجدت نفسي هنا في الصيف القادم مرة أخرى بالدارالبيضاء.