التقاعد‚ يعتبره البعض نهاية الحياة، لكنه عند البعض الآخر بداية حياة جديدة، وفرصة لاكتشاف الذات، والجلوس مع النفس وتقييم إمكاناتها، بعد سنوات طويلة من العمل ومعاركة الحياة، يتفرغ فيها الشخص إلى حياته الخاصة، وممارسة أوجه الحياة التي كانت زحمة العمل تعيقه عنها، فتتكشف فيه مهارات جديدة قد يتفرغ لها، كالميل للكتابة وإفادة الآخرين من واقع تجربته الطويلة، ووضع خبراته بين يدي الأجيال القادمة، أو تقديم هذه الخبرات عن طريق المحاضرات والاستشارات، أو الميل إلى مجالات الخدمات التطوعية المجتمعية، أو الترفيه عن النفس واكتشاف آفاق جديدة في الحياة والثقافات والأمم والشعوب، عن طريق السفر والاطلاع والقراءة.
كل هذه الوجوه من العمل التي أعطته إياها فرصة التقاعد، قد يمارسها الشخص المتقاعد عن حب ورغبة، دون أن يجد من يلزمه بها، فهو يختار ما يناسبه من أوجه النشاط الاجتماعي والثقافي غير متقيد بقوانين العمل ولوائحه، مع إتاحة قدر كبير من الحرية له، وعدم الارتباط، لهذا عليه أن يتأقلم مع وضعه الجديد، ويتعايش معه، ولا ينظر له على أنه قرار لتنحيته عن العمل لعيب فيه، بل إنها سنة الحياة في التجديد، وإتاحة المجال للأجيال القادمة للعمل والابتكار، دون أن ينقص ذلك من خبرات الكبار الذين قطعوا أشواطاً طويلة في العمل، وبنيت على أكتافهم المؤسسات، ليأخذ الموظف المتقاعد دوراً جديداً في الحياة، يتناسب مع قدراته وخبراته التي لا بد أن ينفع بها الآخرين بشتى الطرق والوسائل، ويواصل أداء رسالته في الحياة بشكل جديد، ومن موقع جديد
على صعيد الواقع العربي والوطني ‚ ما زال التعامل مع ملف المتقاعدين يركز على الجوانب الاجتماعية والنفسية بعيدا عن الأسس الاقتصادية والتنموية‚ التي تستهدف إعادة دمج تلك الشريحة المهمة في منظومة العمل والإنتاج ، رغم النصوص والتشريعات العربية التي وضعت الاهتمام بالمتقاعدين ضمن أولويات العمل. ماذا لو عكست الدول اهتمامها بتلك الشريحة المهمة ببرنامج اجتماعي اقتصادي‚ يعتمد إضافتهم إلى المعادلة التنموية الشاملة في مواقع متنوعة سواء كانت ذات صلة بتلك التي قضوا فيها فترة عملهم أو لم تكن ، وذلك بإعادة تعيينهم كمستشارين في مؤسسات الحكومة والمجتمع المدني والجمعيات مع تغيير طفيف بمواعيد اشتغالهم يتماشى مع المرحلة العمرية، بجانب شمولهم بمظلة الأمان الاجتماعي والاقتصادي.
لعل الاهتمام بالمتقاعدين ودمجهم في منظومة التنمية المجتمعية‚ يكون عاملا مهما لتصحيح الأوضاع التي سببتها سياسات وخطط التنمية ‚التي وضعت على أساس اعتبار المتقاعدين بعيدين عن إمكانية المشاركة الجادة أو الفعالة في العمل الإنتاجي، وذلك بسبب النظرة السلبية لمرحلة التقدم في العمر‚ وأنها مرحلة العجز وفقدان القدرة على مواصلة العمل والنشاط. لذلك فإن استمرار المتقاعد في العمل والعطاء ومشاركته الإيجابية في مختلف مجالات الحياة لا يعني تأمين الجانب الاقتصادي له، فإن هذا الجانب على أهمية بالنسبة للمتقاعد يبدو أقل أهمية بالنسبة للجوانب الأخرى التي يحققها العمل والنشاط في حياته، ولعل منها : ضمان حسن توافق المتقاعد نفسياً واجتماعياً الذي يمكن أن يتعرض له في هذه المرحلة، والتخلص من الفراغ والشعور بالوحدة والإحساس بعدم الفائدة المصاحب للخمول والكسل، كما أن العمل يساعد المتقاعدين على حل الكثير من مشكلاتهم الاجتماعية وتأمين فرص الصداقة والعلاقات والإبداع والمكانة الاجتماعية. بجانب الفائدة التي تعود على المجتمع ككل والمتمثلة في دعم الجهود التنموية والاستفادة من قدرات وإمكانيات وخبرات المتقاعدين واستثمارها لصالح المجتمع في برامج ومشروعات تلاؤمهم من الناس بدلاً من حرمان المجتمع من عطائهم وجهودهم خاصة وأن لديهم قدرات كاملة يتمثل بعضها في وفرة الوقت والخبرة، وحاجتهم إلى تحقيق الذات والشعور بالقيمة والرضا عن النفس.
نزهة أبو المنصور