إن كتب عليك ان تتواجد في إحدى المقاهي و شاهدت سربا من الأفراد يتبادلون أطراف الحديث(هذه العبارة العربية في غاية الدلالة لأنها تعطينا صورة واضحة عن التصور العربي للتواصل :أطراف أو أكياس من الحديث و الثرثرة الكمية)، إن كتب عليك هذا،فبادر إلى التفكير بطريقة أوتوماتيكية في أن المعنيين بالأمر أو بالحديث ينتمون إلى سلالة التعليم.ليس هناك فئة أخرى (زملاء في البنك أو في وزارة الفلاحة و تربية الماشية…) تجتاح المقاهي كي تتصرف كقنابل صوتية خطيرة على أكثر من مستوى.
-Iأسباب الظاهرة:
أ ـ أسباب أخلاقية:
إن الذي يصرخ و يقهقه في الأماكن العامة شخص قليل الأدب و التـــــربية سواء أكانت هذه الأخيرة وطنية أو شخصية.أما الصراخ، فهو سلوك مزعج للآخرين لأنه يضر بسماعهم و يحجب عنهم ضوء أنشطتهم من قراءة و كتابة و أكل…و تفكير.أما القهقهة، فهي نوع من أنواع العدوانية و العنف.تخيلوا معي شخصا ما لبث أن دفن أحد ذويه، فجاء لتوه إلى المقهى و دموعه لم تجف بعد و نفسيته مهزوزة إلى حد كبير،فوجد نفسه يسمع قهقهة هؤلاء المربين الذين يلوثون الفضاء بفكاكهم المروضة و المزيتة.كيف سيكون حاله؟مفارقة صادمة هي التي ربما جعلت رسول الإسلام ينهى عن القهقهة كتعبير عن عدم الإحساس بالآخرين و الاستهتار بوجودهم بأكمله.
ب ـ أسباب مهنية:
إن رجال التعليم يسترزقون ببيع أصواتهم و كلماتهم داخل الفصل.لذلك تراهم يصرخون ، معتقدين أن الصراخ هو الوسيلة المثلى لإيصال معارفهم و لفرض سلطتهم على التلاميذ.في نظرنا، هذا اعتقاد خاطئ، لكن لا يتسع المجال للحديث عن مكامنه.ما يهمنا هم أن رجل التعليم الذي يصرخ في القسم شخص تعود على رفع حدة ذبذبات صوته و حلقه.و من شب على شيء شاب عليه و على من يحيط به للأسف…
ت ـ أسباب نفسية/معرفية:
تكمن في كون رجل التعليم ما يزال يعتقد أنه المالك الوحيد و السباق الأول للمعرفة.ربما كان كذالك في وقت كانت فيه المدرسة ـ بعد المسجد- المصدر الوحيد للمعلومة.أما اليوم،و مع تعدد منابع العلم ووسائل الاتصال،فأقل ما يمكن قوله على هذا الاعتقاد هو أنه ساذج و يجعل رجال التعليم يصرخون في الأماكن العمومية مثل الديكان.إنه، بتعبير آخر،علامة عن تضخم الأنا “العالمة” و غرور الضمير و رياء النذر القليل من المعرفة و ما تيسر من روح الأخلاق…
-IIعواقب الظاهرة:
أ ـ عواقب صحية و”بيئية”:
إن الصراخ يسبب إزعاجا حادا للآخرين. و للتعبير عن حجم هذه الكارثة، نكتفي بالقول أن الأسلحة التي ستستخدم في الحروب المستقبلية، ليست البنادق أو المدافع…أو الذبابات، و إنما الذبذبات أو القنابل الصوتية التي هي عبارة عن أجهزة صغيرة الحجم تصدر أصواتا رهيبة لا يمكن للإنسان تحملها. و قد سبق لبعض الدول المتقدمة(الولايات المتحدة في العراق و في تعذيبها لمعتقلي غوانتانامو و ألمانيا لفك المظاهرات و إسرائيل ضد المنتفضين الفلسطينيين…)
ت ـ عواقب مهنية:
إن كتب عليك أن تكون إلى تجاور مجموعة من رجال التعليم في مقهى من المقاهي، فقد تصبح مستشارا تربويا رغم أنفك و إن لم تكن لديك أية صلة بهذا الميدان الشفوي.ذلك أن رجال التعليم هي الفئة الوحيدة التي تنشر غسيلها المهني أمام الملأ.فهذا مدير يتحدث صارخا عن الإجراءات التي اتخذها ضد حاشيته، و هذا نائب مدير ينشر المطالب النقابية لفلان، و ذاك أستاذ يفشي نقط و سلوك التلميذة علانة، و ذلك مراقب تربوي أو مستشار يفضي و يزبد في المذكرات المستجدة، و هذا حارس عام يفشي محضر اجتماع إداري مصغر…
الجميع يعرف أن الوظيفة العمومية سنت قوانين تلزم الموظف بالحفاظ على السر المهني و بواجب التحفظ و ذلك من مبدأ صيانة أخلاقيات المهنة و عدم التشويش على السير العادي للعمل.من هنا قام المشرع بالتأسيس لترسانة من العقوبات لزجر إفشاء الأسرار المهنية.و لولا عدم تفعيل هذه القوانين أو غض الطرف عنها،لوجد العديد من رجال التعليم أنفسهم إما في لائحة العاطلين أو وراء القضبان…
صراحة، أعجب لهذه القنابل الصوتية:بينما تنسى الفئات القطاعية الأخرى مشاكلها المهنية داخل حـــــرم المؤسسة التي تشتغل فيها،ترى هذه الأفواه النشيطة تجر و تجتر قضايا عملها أينما رحلت و ارتحلت.
-IIIالحلول:
في الحقيقة، ليس هناك حل سحري أو فعال لهذه المعضلة طبقا لقدرية المثل القائل:”إن لم تستحيي، فافعل ما شئت”.لكن هناك كوابح من قبيل:
أ ـ التنديد…
ب ـ التحسيس…
ت ـ الزجر الإداري و القضائي للفكك.
ملاحظات:
أ ـ الألف و ألام ليست تعميما لأن هناك رجال في التعليم لم يبتلوا بهذا المرض الشفوي.
ب ـ أحيي نساء التعليم لأنهن أكثر حكمة و تبصرا و كتمانا، ربما لأنهن لا يترددن على المقاهي.أتمنى أن يقعن في فخ الحمام أو الأعراس.
ابراهيم أبوري