لا أحد ينكر واقع من تذوق حلاوة ومرارة العمل الجمعوي، في قالب يتسم بإرادة فعلية تبتغي حقيقة تنموية تحركها عواطف في أغلبها بلا وعي، لتبقى العفوية هي الطابع السائد الذي يجرف إلى ما لا يشتهيه واقعنا، ولا حقيقة عواطفنا المفعمة بثمثلاث غير واضحة المعالم، متجهين إلى ما لا نعلم بارتجالية مفروضة ومفرطة. فمن المؤكد أن كل من يسير على هذا السبيل وفي صدره أماني تنموية تحركه، قد تكون لأسباب في مرحلة طفولية تجدرت وصنعت لنا فاعلا تنمويا، أو لقناعات ثقافية وفكرية أمنت بقوة التنامي، فتبنته أملا في بذور قد تثمر، وقد تكون أيضا لحزازات نفسية نشأت وترعرعت في سياق ثقافي واجتماعي؛ وقد تكون أيضا لاستنتاجات نفعية اقتصادية محضة بنفحات مصلحيه، وقد تتخذ أشكالا تجتمع فيها كل هده الاحتمالات.
فان من يلقي نظرة خاطفة حتى وان لم يكن مهتما؛ سيلاحظ لا محالة وابلا من الجمعيات والتعاونيات وهيئات تنموية بأصنافها وأشكالها، كلها ترفع شعارا موحدا ومفخخا في الآن نفسه “التنمية” والغريب في الأمر أن من يلقي نفس النظرة الخاطفة سيلاحظ أن لا وجود لأي تنمية في حقيقة الأمر، على الأقل تنمية تعكس هدا الزخم من المؤسسات التنموية. لعلى من الملاحظ أن الأمر يتخذ صياغة مبالغة قد تفقد الموضوع موضوعيته؛ وخاصة في إصدار أحكام قيمة تنفي أي وجود لتنمية واقعية ملموسة تعكس خطابات المتحدثين، ففي واقع الأمر أشياء أخرى تفضح نواياهم وما تكتمت به أنفسهم.
إن المؤسسات التنموية بقوة قادر أصبحت أشكالا وأنواعا؛ تتخذ ألوان الطيف لتختبئ وراءها كي لا تكشف النقاب عن نفسها فتفضح، فمنها من يعيش على أنقاض السياسة فلا تموت أبدا كأنها تشرب من ماء الخلود تصنعه أيادي من دواليب السياسة، لتكون الرائد الأول في الملتقيات واللقاءات وتنظيم المهرجانات والمناسبات الكبرى، لتجعل من نفسها العقل المدبر لكل الأصناف المتبقية الأخرى.
وفئة أخرى جاءت تحاول أن تنصع شيئا من اللاشيء متوقعة أنها خلقت لترتقي بنفسها وبوطنها مؤمنة بقوانين وضعية وضعت لتقرأ لا لتطبق، فتعبت وأنهكها واقعها بأعبائه التي لا تنتهي فانكسرت وتدحرجت مع ثنايا التاريخ ولم يذكرها، لتترك المكان فارغا لفئات تحركها العواطف وتسيرها النقائص التي لا تجدي ولا تنفع، فأغلبها جاء بدافع ثقافي اجتماعي مباشر أو غير مباشر، ومعظمها خلقت لأغراض سطحية وهشة قبلية كانت أو لاعتبارات عرقية أو إثنية أو لانشقاقات وصراعات مؤسساتية جانبية بدون أي هدف تنموي مسطر أو نظرة استشرافية توضح معالم اشتغالها وانشغالها، فتموت قبل أوانها وهي في الحياة، وكأنهم بوق يتردد فيه صدى الاخرين. فالكثير منها يبدع ويبتكر في إعادة ما تمة إعادته لنشاطات تقادمت وتآكلت مع التاريخ تجترها لتشعر بوجودها مع أن الأرض خصبة للاجتهاد والابتكار لكن لا حياة لمن كان في الأصل فاسدا.
ليحوم الفاعل في دائرة مفرغة بلا جدوى ليجد نفسه مفعولا به وهو لا يدري، لتبقى الصورة النمطية المحمولة عن العمل التنموي قائمة تنصهر مع الأجيال، جيلا بعد جيل في أبهى صورها القاتمة؛ فتتبلور الأفكار، وتصنع أخرى، خارج جسور ما نبتغيه، لينعته البعض “بالخوا” الخاوي ويتهم الفاعلون به “بالشفارا”…لتكون لهذه الصورة النمطية القاتمة السوداء تعبيرا عن حقيقة مرة لما تحمله من واقعية تتعب المواطن الشغوف لتقلم أحلامه البسيطة متأرجحا بين نكبة ونكسة.
يجب إعادة التفكير في كل شيء مرة أخرى، فنحن بحاجة لمن يبدع ويبتكر، في حاجة لمن يبادر ويغامر، في حاجة لمن يحترم آراءنا وتصوراتنا، نحتاج لمن يشبهنا ويختلف عنا، نحتاج لمن يحترم الماضي ويبني على أنقاضه الحاضر، نحتاج لمن يؤمن بنفسه قبل غيره، نحتاج إلى الابتعاد من النسخ واللصق، نحن في حاجة لمن يملأ الفراغ، في حاجة إلى تجديد الرؤى، نحن فعلا في حاجة لمن يقتحم هذا الكون.
عتمان بوخلي