محمد الزياني
أثرت فلسفة ديكارت و فكره في أغلب الفلاسفة و المهتمين بالفكر الفلسفي إلى درجة لا يمكن معها إنكار دوره في تطور الفكر البشري منذ بداية العصور الحديثة، كيف لا و هو يعتر أب و مؤسس الفلسفة الحديثة كما يعتبره الفيلسوف الألماني هيجل أبا روحيا للثورة الفرنسية، حيث انتصرت فلسفته لقضية البحث الحر و تأييد سلطان العقل. هذه الأيام بالتحديد تؤرخ لنا الذكرى 420 لميلاد هذا الهرم الفكري الذي لا نعتبره فقط فيلسوفا فرنسيا أو غربيا بل هو بالتحديد أحد أعظم العقول البشرية على مر العصور و الأزمان. ولد رونيه ديكارت في 31 مارس 1596 في قرية لاهي بمقاطعة التوربن في فرنسا لأسرة من صغار النبلاء، حيث بدأت فترة دراسته من مدرسة ” لافليش” على يد رجال الدين اليسوعيين ليستكمل دراسته بعد ذلك بكل من باريس و هولندا، انفتح رونيه على دراسة اللغات القديمة و المنطق، الأخلاق، الميتافيزيقا، القانون، الرياضيات، الفيزياء… فكان واسع التكوين الشيء الذي انعكس على مؤلفاته و نظرياته الفكرية-الفلسفية-العلمية بالإيجاب. غير أن الأهم بالنسبة لنا هو الوقوف على وعي الناس – بالخصوص أولئك الذي يطلق عليهم ابن رشد الخاصة أو خاصة الخاصة – بفكر ديكارت في أبعاده الأساسية فيما يخص كتابين لهما بالغ الأهمية و التأثير على الخاصة و العامة DISCOURS DE LA METHODE و MEDITATIONS METAPHYSIQUES إذ تضمن الكتابين دعوات ديكارت للإنسان بضرورة استخدام العقل على نحو سليم لان هذه الملكة هي أكثر الأشياء تقسما بالعدل من طرف الله على الإنسان، لكن هل تأثر فعلا الإنسان العربي بهذه الأفكار المنيرة ؟ و ما درجة تأثرها السلبي و الايجابي على الإنسان؟ دافع ديكارت على استعمال العقل في كل الأمور بالعودة إلى الشك كمهج أساسي لبناء اليقين في المعرفة، فإن لم يكن هذا الاستعمال على الوجه الأكمل على الأقل على قدر المستطاع في استجابة واضحة لقواعد المنهج الديكارتي وضوابطه التي ترفض بالأساس قبول أي فكرة مهما كان مصدرها ما لم تظهر بأنها بديهية عقليا لذلك يقول ديكارت ” أرى أن جميع من أنعم الله عليهم بالعقل يجب أن يستعملوه قبل كل شيء في محاولة معرفة الله و معرفة أنفسهم، و هذا هو الأمر الذي اتفقت عليه جمهرة الناظرين، و الذي وفقني إلى أن أبلغ فيه ما يرضيني تمام الرضا” فاستعمال العقل عند ديكارت هو الذي يجعلنا نرفض التصديق بما يلقى على مسامعنا من أفكار أو أراء مهما كان مصدرها أو درجة رجحانها حتى نتأكد أنها بديهية وواضحة، بالنظر إلى أن البداهة عند ديكارت هي معيار مميز للصحيح عن غيره. لأجل نردد كثيرا ما يطلق عليه بcogito الشهير الداعي إلى ممارسة الشك كأداة لتمييز اليقين عن الوهم الذي يبدو لنا بمثابة الحقائق التي لا يرقى الشك لها، و الذي يستند بالأساس على ما يطلق عليه بdubito لتصبح العبارة ” أنا أشك إذن أنا أفكر – أنا أفكر إذن أنا موجود ” بل و يربط ديكارت وجود الذات بوجود الله بقوله je doute donc je pense . je pense donc je suis. Je suis donc dieu est « بل أقر ديكارت دعما للفكرة السالفة الذكر أن ” مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين و الله موجود هما قضيتين متعادلتين في اليقين” وعي الإنسان بهذا الفكر العقلاني الغني يجعنا اليوم أما مجتمع تغيب فيه كل أشكال الوثوقية العمياء و التبعية المطلقة دون تفكير، إنها كانت بلا شك سبب مباشر في العنف و الإرهاب سواء الديني أو السياسي، و هذه هي الفلسفة التي نسعى على الدوام لنشرها لأنها تمكن الفرد منا من معرفة نفسه و الانفتاح على غيره بالكثير من الحذر. نحن أمام تحدي تربوي ربما يبدأ من الأسرة مرورا بالمدرسة وصولا لأكثر المؤسسات تأثيرا في تربية النشء، فرغم هجوم البعض على الفلسفة منذ الستينات في المغرب، أو ربما قبل هذا التاريخ بكثير السنوات، إلا أنها تبقى وعاء فكري يمكن تكييفه مع الوسط الاجتماعي، الغاية خلق ذوات فاعلة و غير تابعة لأي سلطة كانت معرفية- سياسية أو حتى أيديولوجيا. نعم فعقيدة ديكارت الفلسفية ترفض كل معرفة مصدرها الغير دون تأكد من صدقها عبر منهج الشك الذي يفترض أن يكون منهجيا يصل بنا إلى اليقين، فهذا باب أخر يغلق على الإشاعة و صناعها سواء معرفيا أو أخلاقيا.
هذه الذكرى كذلك تفرض علينا الرجوع إلى دعوة ديكارت الشهيرة للإنسان ضمن كتابه ” مقالة في المنهج” في إطار علاقته بالطبيعة، حيث افترض ديكارت أنه على الإنسان تغيير علاقته بالطبيعة من لحظة الاستئناس و المحبة إلى لحظة السيادة و السيطرة على كل منابع الثروة فيها، الغاية هنا هي استمرار الإنسان و نموه ضمن الطبيعة و رغما عنها. تذكرني دعوة رونيه هنا بالوضعية التي كانت عليها علاقة الكائن البشري بالطبيعة خلال قرورن قبل الميلاد و قبل نشأة الفلسفة و العلم في القرن 6 قبل الميلاد، كانت علاقة تمزج الخوف بالتقديس من لدن الإنسان للطبيعة و ما كانت تعيشه الحضارات القديمة كالصين و الهند و خصوصا مصر القديمة خير دليل على ذلك،كان ينظر دوما لأي حركة غير عادية لطبيعة بأنها انعكاس مباشر لغضب و عدم رضا الآلهة على الإنسان فيسرع الأفراد لإرضاء الآلهة عبر تقديم الهدايا و القرابين. بعد ذلك و مع طاليس تم الوعي بأهمية العلم في معرفة الطبيعة و التقرب منها و لعل أهم حدث هو التنبؤ بكسوف الشمس سنة 585 قبل الميلاد، اعتبرت هذه لحظة حاسمة للوجود الإنسان ، مع مطلع القرن 17 الميلاد خرج ديكارت بدعوة للإنسان لأجل السيادة و السيطرة على الطبيعة، عبر الانتقال من الفلسفة النظرية أو المدرسية التي تعود في أصلها للفيلسوف أرسطو طاليس اليوناني(322فبل الميلاد- 384 فبل الميلاد) إلى الفلسفة العملية، لذلك فالفلسفة عند ديكارت إنما تبدأ بالميتافيزيقا أي الفلسفة الأولى، و الفلسفة كذلك عبارة عن دراسة للحكمة، و الحكمة ليست هي التبصر في الأمور فحسب، إنما هي أيضا معرفة و بحث منهجي كامل لجميع ما يستطيع الإنسان أن يعرف لتدبير حياته و حفظ صحته، و اختراع جميع الفنون كما اهتدى إلى ذلك أرسطو، غير أن هذه المعرفة لن تتم إلا بإجهاد الشخص نفسه بالتأمل و العزلة للفكر و المعرفة.
الانتقال من الفلسفة النظرية إلى العملية، سيمكن الإنسان حسب ديكارت من تجاوز العوز و الحاجة داخل الطبيعة، بل سيحقق الخير الأول و الأسمى المتمثل في حفظ و حماية صحته، بالنظر لذلك سيتم توظيف الفلسفة في جميع ما تصلح له من أعمال لصالح الإنسان، عبر صناعة الآلات و استعمالها حتى يصبح سيدا و ملكا لطبيعة، على الرغم أن ديكارت طلب من الإنسان عدم الإفراط في صناعة الوسائل و الآليات التي قد تجعله يستفيد من الطبيعة دون جهد كافي منه، إلا أن بعض المجتمعات الأوربية كانت قد أخذت الدعوة بسرعة فائقة خلال القرن الثامن عشر أو ربما قبله بقليل، بداية بالآلات البسيطة التي حلت محل العمل اليدوي، مرورا بالآلات البخارية…حتى وصلنا اليوم إلى أكثر أشكال التصنيع تعقيدا، و طبعا تم استغلال التصنيع المتزايد في الاستنزاف المزمن لثروات الطبيعة، لم تكتفي البلدان الصناعية بثرواتها، ففكرت في مناطق أخرى من أجل ازدهار اقتصادها على حساب مناطق أخرى في أفريقيا، أمريكا الجنوبية، و أسيا… فنظرت لها نظرت استغلال بشع يحصرها في محددين، فهي مناطق لجب المواد الأولية و كذا اعتبارها أسواق لبيع فائض الإنتاج.
بعد الحركة الاستعمارية و نتائجها الكارثة على الدول المستعمرة التي لم تستطع أغلب الدول الفكاك منها حتى بعد ( الاستقلال) بعقود عدة، حان موعد الحصاد العالمي للجشع الأوربي- الأمريكي في المجال الصناعي بغاية السيطرة و السيادة على الطبيعة و ثرواتها، فاليوم نعاني جميعا من التصنيع المفرط على المستوى الصحي، حيث يتم ضرب أخر ما تبقى للإنسان من الصحة التي اعتبرها ديكارت الخير الأسمى و الغاية الأسمى من وراء سيادة الإنسان على الطبيعة، على اعتبار أن حفظ الصحة هو أساس كل الخيرات الأخرى التي قد يحصلها الإنسان ضمن الطبيعة. أما الطبيعة فقد ولدت وسائل جديدة للانتقام من الإنسان من فرط التحريض و الاستثارة بغاية استخراج الطاقات و المعادن بل و الأدوية التي تحفل بها أعماق الطبيعة دون تقنين يذكر من طرف الشركات و المستثمرين، اليوم العالم يعاني من مخلفات الإنسان الأوربي- الأمريكي الجشع من شح أمطار و ارتفاع في الحرارة و انتشار الأمراض الناتجة عن الغارات الدفينة، بل من الحروب و الصراعات التي تكاد تغطي كل بقعة من أرض دول العالم الثالث، طبعا و التحليلات الدبلوماسية الخاصة بهم ترجع الأسباب للفقر و الجهل…دون قدرة على تحمل المسؤولية التاريخية أمام الإنسان و الطبيعة، أنها أبشع أشكال التهرب و التخفي وراء الأخر الضعيف، هذا و يتضح من ذلك أن روح كنيسة القرون الوسطى مازالت تجد لها مكان في عقل البعض من المستثمرين و أصحاب الشركات العابرة للقارات التي ترش بعض المال لإسكات دول المناطق المتضررة، بحجة تشييد و بناء محطات الطاقة المولدة من الرياح و الشمس، ربما خطاب الملك محمد السادس في مؤتمر cop21 الأخير في باريس يلامس الكثير من أعماق الفكرة و ربما المشكلة، حيث تساءل أمام القمة: “هل من الإنصاف أن نطالب الآخرين بالتقليص عندما نتوفر على كل شيء؟ و لكن عندما نتوفر على القليل، هل المطالبة بالمزيد تعتبر إجراما في حق كوكب الأرض؟ و هل من المناسب وصف التنمية بالمستدامة إذا كانت تدفع الجزء الأكبر من البشرية نحو الفقر؟ و هل من المشروع أن تصدر توجيهات حماية البيئة عن الأطراف التي تعتبر المسؤول الأول عن ارتفاع حرارة المناخ؟” ربما هي أسئلة في الجوهر موجة لمن أفسد دعوة ديكارت بل و ساهم في أزمة كوكبية تجد لها أصل و جذور في تحريف مشروع و دعوة ديكارت في العصور الحديثة، أما في عصرنا الحالي فالجميع يحصد النتائج سواء أكان طفلا أم عجوز بل ستنعكس بالسلب أكثر على الأجيال القادمة، التي لم تتدخل في أزمة المناخ العالمية، مع ذلك نسمع الكثير من التعليقات من هنا و هناك صادر من جهات إلى الأمس القريب كانت تستغل جهل و فقر مناطق أخرى عبر العالم من قبيل ما عبرت عنه branda Walker أمريكية من كاليفورنية مدافعة عن المرأة و البيئة في برنامج بيتر بويلز الإذاعي ” إذا كان هناك شيء واحد يجيده المكسيكيون فهم تأسيس بنى تحتية للتهريب. يمكنهم تمرير كما تعلم بالطبع ملايين الأجانب غير الشرعيين و أسلحة الدمار الشامل ” في نفس البرنامج يسوق William Gen رئيس هيئة أمريكيون من أجل هجرة شرعية يقول ” أنظر سآخذ الأمر إلى أبعد من هذا يا بيتر. دعني أذكر شيئا حول هؤلاء النازيين ذوي اللون البني…أخرجوا من بلدي ألان. افهم الإشارة ارحل فليس علي القول » لا تدع بوابة الحدود تضربك و أنت تخرج منها. أنا أعني ذلك إنني جاد جدا حول هذا الأمريكيون هم اليهود” إلى هذه الحدود وصلت كراهية الأخر القادم من الجنوب داخل المجتمعات الديمقراطية هذا الأخر الذي لا ذنب له إلا أنه قادم من الجنوب الذي فعلت فيه التغيرات المناخية و رواسب الاستعمار فعلتها. هل يحق لنا أن نحمل الفقراء جرائم الأغنياء ؟ و هل يحق لنا تحميل ديكارت مسؤولية الدعوة لأنه لم يصاحبها بشرح مفصل لمشروعة على الطبيعة لصالح الإنسان ؟ لكن ما محل العقل من المشكلة؟ أليس من العيب استبعاد العقل الإنساني من النتائج بل و من الحلول كذلك ؟
الواضح أن مشروع ديكارت استحال إلى العكس حيث أصبح يشكل أكبر مهدد للإنسان على الأرض، فقد ارتفع عدد سكان الأرض إلى أكثر من سبعة مليارات نسمة، و العدة التقنية في تزايد مطرد، نعم 420 سنة رقم كافي لتدمير الإنسان نتيجة القراءة الفاشلة له، و ألان من حق سكان الأرض اعتبار رقم 420 رقم نحس، ثم العودة من جديد إلى أصل المشكل بغاية قراءته بتمعن فقد يتضمن الحل كذلك.
الذكرى 420 على ولادة الفيلسوف رونيه ديكارت وقفت عليها هنا بهذه الطريقة ليس نقدا له بل توجيه و نقد لمن حرف مشروع الحداثة العاقلة التي دافع عنها ديكارت من أكثر من أربع قرون مضت، و النتيجة كانت كارثة طبيعية بكل المقاييس يجتمع العالم من شرق إلى غربه و من شماله إلى جنوبه كل سنة تقريبا لبحث حل مشكل يجد جذوره في عمق فكر ديكارت و سوء تفسيره، لكننا اليوم مطالبين برفع الأصوات فوق صوت الجشع و الاستغلال الاقتصادي المفرط ضد الأرض فمهما كانت مصادر الكارثة فنحن جميعا سنتحمل السلبيات، غير أن الايجابيات فقد تؤول إلى أشخاص و مناطق محضوضة ضمن هذا العالم الذي يسير بنا نحو وضع قد يصعب التحكم فيه أو تقليل أضراره الواضحة ضد الإنسان و الطبيعة، التي أصبحت تقاوم التسلط الإنساني بمختلف الأشكال و الطرق لحماية نفسها.