بقلم: لحسن أمقران.
في صورة تكاد تكون مألوفة، لا تجد الحركة الأمازيغية غير خطاب المظلومية لتبرير ضعف وقعها وتأثيرها في الساحة، مبررة الوضع بالمؤامرات “المخزنية” والدسائس التي لا يتوانى الخصوم الإيديولوجيون عن نصبها، فإذا كان “المخزن” يلجأ إلى الحظر والعنف والاعتقال، وغيرها من مظاهر التضييق والترهيب، فإن التيارات الإيديولوجية الأخرى لا تدخر جهدا في تحوير النقاش واختلاق معارك جانبية وشيطنة التيار الأمازيغي ورموزه، بل وتسعى أحيانا – إن لم نقل كثيرا – إلى التحالف مع “المخزن” لمحاصرة الفعل الأمازيغي وتشويه خطابه.
إنه واقع يغلب عليه الصواب إلى درجة كبيرة، وإن كان من الأجدر بالحركة الأمازيغية البحث عن آليات جديدة تمكنها من تجاوز هذا “التحامل” بغير قليل من الذكاء الإستراتيجي، وتتطلع إلى غد أفضل ينصف القضية الأمازيغية ويجعلها فاعلا فعليا في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية، وتكون في صلب اهتمام القرار السياسي المغربي والتوجهات الكبرى للدولة. لقد كانت القضية الأمازيغية و لاتزال – للأسف -مجرد مفعول به في جملة الدولة المغربية يؤتى بها كورقة سياسية ضاغطة لحفظ التوازنات على مقاس رغبات نخبوية، وتغيّب وتضمر في غير ذلك من الظروف.
نعود ونؤكد على أن الفعل الأمازيغي يحتاج إلى “ثورة” داخلية تتأسس على حصيلة نقدية يتم من خلالها التحديد الدقيق للإمكانيات، والقيام بدراسة متأنية لتسطير الأهداف بشكل أكثر جرأة وإجرائية وبغير قليل من الواقعية والعقلانية، ورسم سبل بلوغ هذه الأهداف بشكل سلس ينتصر لرهان الدقة وتوفير الجهد، وداخل سقف زمني يأخذ بعين الاعتبار الأولويات وفق مراحل وآجال محددة ومعقولة.
إن العمل الاستراتيجي أصبح ضرورة قصوى يفترض أن تؤطر نضالات الحركة الأمازيغية منذ مدّة، وهذه الأخيرة مدعوة إلى وضع حد للارتباط المرضي بالخصم توجّسا ومواجهة، وبالمقابل، ابتكار طرق ذكية تمكّن من توفير الجهد والوقت لربح رهان إنصاف الأمازيغية من خلال استحضار رأسمال الذات وكفاياتها ومؤهلاتها و”أسلحتها” وتكوينها وتأطيرها وتجلياتها وإمكانياتها المعنوية والمادية دون أن تعطي “للغير” الكثير مما يستحق من الاهتمام والاتهام في تلك الإستراتيجية.
إن الحركة الأمازيغية مهما زعمت وجود “حصيلة نقدية” – والتي لا تعدو أن تكون مجرد اجتهادات لفعاليات بعينها – تظل في حاجة إلى تكثيف النقاش وتعميقه حول هذه الحصيلة المزعومة، للوقوف على ما تحقق وما لم يتحقق، ثم كيف تتحقق هذا؟ ولماذا تعذر تحقيق ذاك؟ كل ذلك للوقوف على الأسباب الموضوعية لـ”الإخفاقات” والمثبطات وللتفكير في تجاوز الهفوات واستشراف المستقبل بغير قليل من العزم والثقة بالنفس.
يتعين على الحركة الأمازيغية أن تدرك حجمها الحقيقي، فهي الحاملة لخطاب قوي له من الشرعية والأصالة والتبني الشعبي ما يكفيه لفرض نفسه في الساحة الفكرية المغربية بعيدا عن الغرور وتضخم الأنا، وعلى الحركة الأمازيغية أن ترصد كل إمكانياتها البشرية الهائلة، التي تحفل بها كل القطاعات والتخصصات وتعبئتها أكثر لترويج الخطاب الأمازيغي وتبسيطه بشكل أكثر لتمكين كل المغاربة من استيعابه وبناء وعي سليم حيال هذه القضية، والتي يتعين الخروج بها من دائرة “النخبة”. إن التحديد الأمثل للإمكانيات لن يتم دون طرق الأبواب التي صدّت أمام القضية الأمازيغية لأسباب يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، وأكيد أن رفع اللبس لدى هؤلاء “المترددين” بالخصوص سيمكن الحركة الأمازيغية من مضاعفة إمكانياتها البشرية من الأطر بشكل خاص ومن مختلف الفئات والطبقات بوجه عام.
من جهة أخرى، تظل الحركة الأمازيغية مدعوة إلى الإجابة عن تساؤل دقيق: ماذا نريد؟ فالجواب عن هذا التساؤل هو الكفيل بوضع خارطة طريق تحدد مسار نضالها بشكل واضح، وتجعلها تعمل وفق برنامج عمل محدد ودقيق، وخطة محكمة تستحضر الإكراهات والعراقيل المفترضة وسبل تجاوزها، ولا يجب أن ننكر أن غياب هذا “التحديد” الدقيق للأهداف جعل الحركة تبذر طاقاتها في أمور ثانوية ومعارك جانبية، وجعلها تخوض في النقاش فيها وهي في غنى عنها. إن على الحركة الأمازيغية تحيين أهدافها ومطالبها، وعليها أن تحرص على إضفاء مزيد من الواقعية والراهنية على مطالبها، مع التركيز على جعلها أكثر جرأة وإجرائية.
بعد تحديدها للأهداف، يفترض أن تضع الحركة الأمازيغية تصورا دقيقا لمنحى عملها، وتطور استراتيجيتها وفق منهجية نسقية واضحة وفعالة، ومن ذلك أن تنخرط في العمل على المدى البعيد أمام تعنت جيوب المقاومة، والتركيز على الغايات بدلا عن الوسائل، واعتماد مبدأ “التدرج” كتكتيك تفرضه بعض الظروف، وخصوصا عدم التركيز على “الخصم”، فتركيز الحركة الأمازيغية على “خصومها” في كثير من الوضعيات هو السبب المباشر في “إخفاقاتها”، ذلك أن معطى “الخصم” متغير لا يثبت على حال، وإذا كان الخصم المعلن في المتناول ولو نسبيا، فإن تحدي الخصم العدمي والمتخفي يطرح نفسه، إن الخصوم الثلاثة – على اختلافهم – يستنزفون طاقة الحركة الأمازيغية دون جدوى تذكر، خصوصا أن ذلك يذكي الانقسامية داخل الصف الأمازيغي ويغيب الابتكارية والفكر الخلاق. من جهة أخرى يفترض أن تنوّع الحركة الأمازيغية أساليب المواجهة (ليس بمنطق الصراع)، فتعمد إلى التفاوض والترويج والشراكة ثم المقارعة حسب الشروط وبشكل استراتيجي، كما يتعين اليوم تجاوز هذا الوضع – هاجس الخصوم – والتركيز على المرامي والغايات على الوجه الذي يكفل جعل أولئك “الخصوم” يستسلمون أمام عزيمة الحركة الأمازيغية ودقة برامجها.
في الأخير، وبحكم العلاقة الجدلية بين الزمن والفعل، يظل تدبير الزمن تحديا آخر أمام الحركة الأمازيغية خصوصا أنه العمود الفقري في كل عمل استراتيجي، فالحديث عن أجرأة الأهداف يفرض تحديد سقف زمني محدد لبلوغها، والفعل الأمازيغي يفتقر في غالب الأحيان إلى ضبط السقف الزمني، وهنا يتعين على الحركة الأمازيغية العمل على انتزاع حق أو تحقيق مطلب معين والتركيز عليه دون غيره خلال مدة زمنية محددة، بالشكل الذي يكفل بلوغه قبل الانتقال إلى حق أو مطلب آخر.
تلكم باقتضاب أهم النقاط أو الخطوات الإستراتيجية التي نراها سبيلا لتجويد النضال الأمازيغي وجعله أكثر فعالية، وبالتالي نرتقي بالفعل الأمازيغي من “نضال العشوائية” و”الفوضى الترافعية” إلى فعل نضالي فاعل وفعال، واضح في تصوره، دقيق في أهدافه، مرحلي في أولوياته، حاسم في أوقاته، قوي في طرحه ومتماسك في بنيته.