يستغرب الكثيرون، ممن كتبوا و تابعوا، ربط السياسة بواقعة المنصورية. يكاد يجمع الكل على أن الواقعة تندرج ضمن المجال الخاص و الحميمي، و أن ما وقع هو تربص بالحرية الفردية و انتهاك للخصوصية، رغم أن نص القانون الجنائي المغربي، الجاري العمل به، يجرم كل واقعة مماثلة و يعتبرها فسادا و إخلالا بالحياء العام.
يخلص الكل لقناعة أن الواقعة لا تعدو غير تصفية حساب سياسي بين خصمين قبلا باستعمال هكذا استراتيجية و أدوات في حرب المواقع و المناصب. و في أحسن الأحوال، ينظر للواقعة على أنها تكشف ثغرة في القانون الجنائي المغربي، تنضاف إلى لائحة المطالب الواجب النضال على تعديلها، حتى لو تولى الواقعان في المأزق الحكومة المقبلة.
في خضم الإدانة و الاستنكار و الدفاع و التبرير و محاولات جبر الضرر و لملمة الخسائر و حصرها، يثير البعض سؤال الضرر الواقع على المجتمع جراء هذا الواقع. ينخرط كل طرف في شرح و بيان أوجهه في سلوك الخصم.
ما يهمني هنا ليس بيان الضرر الذي يكشفه التدقيق في حيثيات ضبط الشيخ و الداعية
في وضعية مماثلة من إضرار بمبدأ الحق بالقانون و الحريات الفردية. فالشيخ و الداعية لم يساندا ترسيخ هذه المبادئ وقت توليهما السلطة التنفيذية و تطلعاتهما مخالفة و مناقضة لها. و عليه، فالمسألة خارج مجاليهما المعرفي و لا تنتمي لمعجمهما. أهتم هنا بتسليط الضوء على ما يخصني و إياهما و هو بيان حجم الضرر الناجم عن سلوكهما اجتماعيا و سياسيا، باعتبار وضعهما التربوي و الدعوي و الأخلاقي، في القول بتحريم الحب و الانفراد بالتمتع بحق الاستمتاع به.
تشكل الوضعية التي ضبط فيها عضوا حركة الإصلاح و التوحيد وضعية عشقية، وضعية حب بامتياز. تتناقض هذه الوضعية المعيشة و المنطق الدعوي الديني الذي يؤمن به هذين العضوين، و يلقنانه لمريديهما. من المفروض أن من يفتي في الناس بتحريم الحب و العشق، و اعتبارهما وضعيات مخالفة للدين و محرمة شرعا، و اعتبار التعبير عن المشاعر و الأحاسيس خسيسة و فاحشة، لما يستوجبه هذا التعبير من خلوة تمهد للوقوع في الرفث و الفسوق و الفجور، لا يجب أن يسمح لنفسه بممارسة سلوك أفتى بتحريمه. و إلا فإنه يفتي بأحقيته لوحده بهذا الفعل و بكونه الوحيد من له حق في القيام به، و بأنه خاصته لمفرده. خصوصا و أن وضعية الحب هي وضعي عشقية مخصوصة، تحضر فيها الاعتبارات العاطفية و الوجدانية و الجسدية و يؤطرها الاحترام و الاعتبار و الاعتراف.
يحوز الحب في المجتمع الإنساني أهمية كبرى، باعتباره الآلية الموكول إليها التحرير من العواطف و الجنس. فوعاء الممارسات العشقية هو وعاء علائقي من مستويين: يؤطر علاقة الإنسان مع جسده، و علاقة الإنسان مع الآخر. و المستويين معا يعكسان علاقة جسدية خالصة، تتخذ شكل علاقة جدلية انعكاسية. تضبط الممارسات العشقية إيقاع علاقة الذات بذاتها و بالآخر و بالعالم. فباعتبارها جسدا، توجد الذات بجسدها داخل العالم إلى جانب الأجسام الأخرى، بما فيها الأجسام البشرية. يحتاج ضبط إيقاع الوجود في جسد متميز و منفرد و خاص داخل العالم، إلى جانب أجساد أخرى، ضرورة حصول الوعي لدى هذه الذات بخصوصيات هذا الجسم الذي تسكنه، في خصوصياته و تشابهاته و اختلافاته عن باقي ما يحيط به.
تختزل وضعية الحب، و كل الوضعيات العشقية عموما، هذه العلاقة البيجسدي. مما يجعلها قادرة على توفير كل الموارد السيكولوجية اللازمة لتكوين الهوية الذاتية، الفردية كما الجماعية لبني البشر، بما هو إنسان، و لتفتحه و تحريره. و بالتالي فالاستفراد بعيش هذه الوضعية هو استفراد بهذه الهوية البشرية و الانفراد بالتمتع بالموارد السيكولوجية المترتبة عنه، و إسقاط لهذه الهوية عن الآخرين.
يستتبع ترخيص الشيخ و الداعية لنفسيهما بالانفراد بحق التمتع بوضعية العشق و الحب، و تحريمه على الآخرين، انفراد ذاتيهما بحق اعتبارهما ذاتا و طلب احترامهما على هذا الأساس و انتزاع الاعتراف لهما بمفردهما دون غيرهما.
فتخصيص الشيخ و الداعية لذاتيهما بالحق في الحب و التعبير عنه و عن مشاعره و عيشها هو تخصيص لحق الاعتراف بجسديهما كجسدين بشريين، و اعتبارهما و احترامهما بما هما كذلك دون غيرهما، و هو ما يمس بحق الآخرين في المساواة، لأن التخصيص تمييزا يؤسسه على الامتياز. فالشيخ و الداعية عندما يحرمان الحب و العشق على الآخرين و يتمتعان به يجعلان منه امتيازا لهما لوحدهما، و هو ما يعد إخلالا بحق المساواة بين الأفراد.
من جهة ثانية، يخل الانفراد بالتمتع بوضعية الحب، عبر الإفتاء بتحريمه، بالاعتراف و يعطل النضال في سبيل تحصيله. فباعتبار هذا الأخير أداة حاسمة في بناء الاندماج الاجتماعي و تشييد التماسك الاجتماعي، فمن الناحية السيكولوجية يبقى الانسان يعاني من خصاص من حيث التحقق الذاتي. الأمر الذي يضر، من الناحية الاجتماعية، بالبنبة التحتية الاجتماعية و بتعزيز العيش المشترك. فالاعتراف عنصر مفتاح لتحقق الهوية. فهو وسيلة الذات في تعرف و معرفة ذاتها كذات إنسانية، و بالتالي بناء وعيها بذاتها. فالإضرار بحق الذات البشرية في الحب و التمتع بمشاعره هو إخلال و إضرار بتكون هذه الهوية و هذا الوعي بالذات البشرية في وحدتها و اختلافها، في انفرادها و تنوعها. يثير هذا التحريم إرباكا لعملية تكون الوعي، الفردي و الجماعي، بالهوية الذاتية للجماعة البشرية و للأفراد في خصوصياتهم و فردانيتهم. يفرمل تحريم الحب و العشق آلية تعرف الذات و الوعي بها ، بحضور الآخر و العلاقة معه و ما يستتبعها من إمكانيات الغوص عميقا في دواخلها بما يتيح تعرف ميولاتها و رغباتها، و بالتالي تعرف خصوصياتها.
تتمكن الذات، متى تحقق لها هذا الوعي، من تحصيل الاعتراف بها كذات و اعتبارها و احترامها على هذا الأساس، بوساطة الآخر البشري. مما يمكنها من طبع دواخلها على العالم و يتيح لها أنسنته. ترتد هذه القدرة على أنسنة العالم الخارجي على الذات لتجعله عالمها، و تنزع وحشيته و غرابته. مما يجعله عالما يترجم تقديرا ذاتيا و الوعي به.
يتداخل الاعتراف بالثقة، كقيمة تعاملية. تترسخ في الاعتبار و الاحترام كحق للذات البشرية. يسمح الاعتراف لكل ذات بشرية بهويتها الذاتية، تعكس المشترك و الخاص بالذوات البشرية و الأجسام في تنوع حضورها و اختلاف أشكالها، ضمن الوحدة، بالاستمتاع بالقدرة على اعتبار و احترام ذاتها أولا و الذوات الأخرى ثانيا. يمكن الاعتراف للذات بوساطة الذات الأخرى المحبة من الشعور بالاحترام، المؤسس على الاعتبار لخصوصياتها و تفردها. الأمر الذي يجعلها ذاتا سعيدة.
يؤسس الحق في الحب و في عيش وضعية عشقية لحق الذات، كل ذات بما هي إنسان، بالحق في السعادة. و كل تحريم لهذا الحق هو تأسيس للتعاسة الفردية كما الجماعية. و كل ترخيص لانفراد بهذا الحق هو تخصيص لهذا الحق في السعادة و اعتباره امتيازا.
في مجال الحق يتحقق الفرد من خلال الاقرار الصوري أو الفعلي بالتمتع بحقوقه. تحريم الحب هو منع تحقق الفرد و تشويهه من خلال حرمان الأفراد من حقهم في التمتع بالاعتبارات الوجدانية و الجسدية، و ما يستتبع ذلك من حرمانهم من حقهم في أن يكونوا سعداء، أي في أنسنة وجودهم المادي، و بالتالي في حقهم في ادراك اختلافاتهم و تنوعاتهم و بناء توافقات حولها.
إن منع الأفراد من حقهم في الحب هو حرمانهم من حقهم في التعاقد الحر بشكل إرادي، على أساس المسؤولية و المحاسبة في القيام بكل فعل. هو حرمان المجتمع من توطين هذه القيم، لأن الحب قيمة أخلاقية يساهم في تطوير الرأسمال البشري و ينهض بالمشروع المجتمعي، عبر النهوض، عن دراية، بقيم أخلاقية و التربية عليها بتقاسمها بين أفراد المجتمع لتنتشر فيه و تترسخ داخله. بالتالي المساهمة في تحقيق نهضة لن تتحقق إلا بالنهوض بالفعل السياسي.
يؤسس الحب الثقة في الذات و في الأفراد و المجتمع، بواسطة التربية على الحرية و المسؤولية. و هو ما ليس بوسعه أن يتأتى من غير الثقة في الذات و احترامها و اعتبارها كذلك. و هو ما من شأنه أن يؤسس لكفاءة عملية و نفسية تجعل المجتمع يتوفر على رأسمال اجتماعي يؤهله للتطور و التقدم و النهوض.
يسقط تحريم الحب إذا القدرة على تعرف الذات و تكوين هويتها و الدراية بها، كما يعطل الحق في التمتع بالحرية و الحق في التحرر من الرغبة و التربية على المسؤولية و بالتالي الكفاءة و الأهلية و النضج. لنجد أنفسنا كمجتمع مضطرين على معالجة إشكاليات عدم استقرار العلاقات الزوجية و كل مخلفات الطلاق، الناجمة عن عدم ثقة الذات في ذاتها و في الآخر، في تحمل المسؤولية و القدرة على التحول السلس من وضعيات إلى أخرى داخل البيئة الاجتماعية و أداء الأدوار بالكفاءة و الجودة اللازمة.
فالحب اعتراف و اعتبار الذات لذاتها أولا و للآخر ثانيا، يعمل، متى عاشته الذات و تمرنت على تعرف ذاتها فيه، على تيسير الانفتاح و الاندماج و التماسك الاجتماعي، و بالتالي تقوية و تعزيز العيش المشترك و تماسك النسيج الاجتماعي. في مقابل ذلك لا يسمح تحريم الحب بتحرير عواطف الأفراد، بما هم كائنات بشرية، مما لا يسمح بتحرير القدرات الجسدية، فيحول دون حصول تصالح الأفراد مع بشريتهم. فتحريم الحب يمنع و يعطل اعتراف و اعتبار و احترم الأفراد لأجسادهم و بالتالي تعرفها و التماهي معها، و التساكن معها و السكينة إليها، مما يضر بسعادتهم. تعطل شيطنة الجسد، بجعله مصدر كل حيوانية و دونية و كل شر، التصالح و التعايش المفترض حصوله لكل فرد مع جسده.
يشعر هذا القبول بالجسد و الاعتراف به و اعتباره و احترامه الإنسان بسعادة الوجود، الذي يسعد الإنسان بالحضور به و من خلاله في هذا العالم و بين أقرانه. إذ في وضعية مخالفة، كيف يمكن أن يهنأ الفرد بحضوره بيننا و معنا و يعمل على تطوير شروط هذا الحضور و يسعد بتقاسمه إياه من لم يقبل بشكل حضوره و رضي بسكناه؟
إن مسؤولية الجناة قائمة و تابثة بتحريمهم الحب و خلطهم بينه و بين الممارسة الجنسية التي يستوعبها دينهم في شكل تنظيمي أسماه الزواج. يعطل النظر للحب و التعبير عنه و عيش وضعيات العشق كزنا و شيطنة العواطف. فتعطيل تعرف الأجساد و اعتبار الرغبة صفة حيوانية لا تليف بالإنسان لا يسمح بانبثاق كل الإمكانيات البشرية، و يعيق استثمار كل الرأسمال البشري في في بناء نسيج مجتمعي متطور و مزدهر و متقدم، متصالح مع ذاته و هويته البشرية. إن تحريم الحب تعطيل للحضور هنا للصالح الغياب هناك و تشجيع لشوق الغياب هنا للحضور هناك.
محمد تحزيمة