عبد الرحيم الوالي
بينما كان مئات الآلاف من المغاربة يتظاهرون في الشوارع مطالبين بدستور جديد، وكانت لجنة صياغة الدستور تعكف على إعداد الوثيقة الدستورية الجديدة، تسرب خبرٌ/إشاعة يقول بأن مشروع الدستور الجديد سيتم فيه إلغاء “الدين الرسمي” للدولة.
وما كاد الخبر/الإشاعة يستقر في الآذان حتى خرج رئيس الحكومة الحالي، عبد الإله بنكيران، الذي كان آنذاك في موقع “المعارضة”، ليقول بأن حزبه وأتباعه سيقاطعون الاستفتاء وسينزلون إلى الشارع.
وبعد الكثير من الهرج والمرج جاء الدستور الجديد ليكرس وضع الدولة المغربية كدولة دينية، دينُها الرسمي هو الإسلام، وليرسخ مؤسسة إمارة المؤمنين، مع الفصل بين هذه الأخيرة من جهة والمؤسسة الملكية من جهة أخرى، (من الناحية الشكلية على الأقل) حيث خصص لكل واحدة منهما بندا مستقلا عن الأخرى. ثم جاءت بعد ذلك الانتخابات التشريعية و”فاز” فيها الحزب الذي ظهر بمظهر المدافع عن “الدين الرسمي” وعن مؤسسة إمارة المؤمنين، وصرح الأمين العام للحزب، الذي سيصبح لاحقا رئيسا للحكومة، بأن الله هو الذي اختاره واختار حزبه لإنقاذ البلاد (وليس الناخبون). وبالطبع، فنتائج هذا “الإنقاذ الإلهي” المزعوم يعرفها الجميع الآن ولا داعي مطلقا للخوض فيها لأنها، أولاً، ليست موضوعنا هنا، ولأنها ثانياً لا يمكن حصرها في حيز كهذا الذي نحن فيه.
بالمقابل، فالذي يهمنا هنا أساسا هو السؤال الذي يتعلق بمؤسسة إمارة المؤمنين في علاقتها بمستقبل الدولة والمجتمع. وهو سؤال لا نطرحه، كما يحصل في العادة، من منطلق أيديولوجي بالمعنى الضيق، وإنما من منطلق وطني، يحضر فيه سؤال المستقبل باعتباره سؤال وطن وشعب، متنزها ما أمكنه التنزه عن كل الانتماءات السياسية والاصطفافات الأيديولوجية.
ولذلك فإننا ننطلق هنا من سؤال مركزي: هل الاحتفاظ بمؤسسة إمارة المؤمنين يصب في مصلحة المؤسسة الملكية وفي مصلحة المغرب والمغاربة؟
أم أنه عكس ذلك سيصبح عائقا أمام تطوير الملكية نفسها وأمام تطور النظام السياسي والاجتماعي المغربي برمته؟
طبعا، لا تعنينا هنا بتاتا الخلفية التاريخية ولا الشروط التي أفرزت مؤسسة إمارة المؤمنين في المغرب تاريخيا، ولا الأدوار التي لعبتها هذه المؤسسة في الماضي، بقدر ما يهمنا ما تعنيه إمارة المؤمنين في الراهن وما قد تعنيه في المستقبل.
وعليه، فإننا نتساءل: مَن هم “المؤمنون” في هذا السياق؟ إنهم، بكامل الاختصار، المغاربة المسلمون، المالكية، أي الذين هم على مذهب الإمام مالك بن أنس باعتباره المذهب الفقهي الرسمي للدولة المغربية.
وكل المغاربة المسلمين الذين يعتنقون مذاهب أخرى، سنية أو شيعية أو غيرها، والمغاربة اليهود، والمسيحيين، والملحدين، واللادينيين…إلخ لا يدخلون تلقائيا في خانة “المؤمنين” بالمعنى الرسمي.
وبذلك يصبح الملك، بصفته أميرا للمؤمنين، أميراً لفئة من المغاربة دون باقي الفئات، بينما هو مبدئياً وفعلياً ملكٌ للمغاربة جميعا، وينبغي أن يظل كذلك.
ومن موقعه الأخير هذا، أي من موقعه كملك، فهو الذي يسهر بقوة التعاقد الدستوري “على صيانة حقوق وحريات المواطنين والمواطنات” (الفصل 42 من الدستور).
ومعنى ذلك أن الملك هو الذي يسهر دستوريا على حق المغربي اليهودي وحريته في أن يكون يهوديا، وحق المغربي الشيعي وحريته في أن يكون شيعيا، وحق المغربي المُلحد أو اللاديني وحريته في أن يكون ملحداً أو لادينياً…إلخ، لأنه ملكٌ للمغاربة جميعا باعتبارهم مواطنين أولاً وأخيرا، دون أي تمييز بينهم على أساس انتمائهم الديني أو العرقي أو الفكري.
غير أنه، في ذات الوقت، ومن موقعه كأمير للمؤمنين هو “حامي حمى الملة والدين” (الفصل 41 من الدستور). و”الملة والدين” هنا هما “الدين الرسمي” باعتبار “المملكة المغربية دولة إسلامية” كما جاء في تصدير دستور 2011.
ومن الواضح أن “حماية حمى الملة والدين”، أي حماية العقيدة الرسمية للدولة، تضع على عاتق أمير المؤمنين مهمة مكافحة انتشار المسيحية والتصدي ل”التنصير”، ومهمة مواجهة التشيع، ومهمة محاربة الملحدين واللادينيين تحت يافطة “الردة” و”الزندقة” و”الخروج عن الجماعة”…إلخ، لأن انتشار هذه الأديان والمذاهب والأفكار، وغيرها، يهدد جماعة “المؤمنين” بالانحسار المتواصل، أو حتى أنه قد يتهددها بالانقراض على المدى البعيد، أي أنه يهدد الدين الرسمي للدولة في آخر التحليل.
وهنا، بالضبط، يتحول الملك من ساهر على الحقوق والحريات الفردية والجماعية، وضامن لها باعتباره رئيساً لدولة حديثة، إلى أمير للمؤمنين عليه التصدي لبعض هذه الحريات والحقوق، والحد منها، بكل ما أوتي من قوة ووسيلة دفاعاً عن”حمى الملة والدين”، أي حفاظا على الدين الرسمي للدولة.
واضح إذن أن وظيفة أمير المؤمنين لا تتماشى مع وظيفة الملك كرئيس لدولة معاصرة قبل أي شيء آخر.فالملك، الذي هو حامي الحريات وضامنُها، يصبح مطالباً (نظريا على الأقل) بانتهاك بعض هذه الحريات، أو الحد من ممارستها على الأقل، بموجب وظيفته كأمير للمؤمنين.
ولا شك أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، في عالم اليوم وفي ظل تنصيص الدستور على تشبث المملكة المغربية بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، وفي ظل الالتزامات الدولية للمغرب، ممارسة الرقابة على أفكار ومعتقدات أي مواطن مغربي أيا كانت تلك الأفكار والمعتقدات طالما أنه يعبر عنها بالطرق السلمية وفي إطار المشروعية واحترام القانون.وكل عمل من هذا القبيل لا يمكنه إلا أن يسيء إلى صورة المملكة ومكانتها والتزاماتها الدستورية الدولية.
وبالتالي، فهذا التناقض المنطقي والموضوعي، بين وظيفة الملك كرئيس لدولة معاصرة من جهة، ووظيفة أمير المؤمنين من جهة أخرى، مهما بدا سطحيا أو حتى تافها في نظر البعض، يضعنا أمام مأزق عميق ويقود رأسا إلى طرح السؤال:
ما هو الخيار المستقبلي الأصلح للمغرب والمغاربة؟ ملكية معاصرة تنقل البلاد والشعب إلى رحاب الديموقراطية والحداثة الفعليتين، أم ملكية مثقلة بإرث الماضي، تُراوح بين التطلع الديموقراطي الحداثي وبقايا القَدَامة ورواسبها؟
صحيح أن إمارة المؤمنين لعبت، وتلعب، دورا كبيرا وحاسما في التصدي للتطرف الإسلامي، وتمنع الفوضى التي تعرفها بعض البلدان الأخرى في إصدار الفتاوى، وتضفي نوعا من الشرعية الدينية على الحرب على الإرهاب، وتحصن المساجد من الخطباء المتعطشين للسبايا والدماء.
لكنْ، ليس ثمة طريق واحد، ووحيد، إلى كل ذلك بالتأكيد. وكما يمكن القيام بهذه المهام عبر إمارة المؤمنين يمكن القيام بها أيضا عبر بناء الدولة المدنية، العلمانية، التي يتحقق فيها الفصل التام والنهائي بين مجال الدين ومجال السياسة، مع فارق وحيد، وجوهري، هو أن الدولة المدنية، العلمانية، لن تجعل الملك أميرا ل”المؤمنين” دون “غير المؤمنين” وإنما تجعله ملكاً لكل المغاربة دون زيادة أو نقصان.أضف إلى ذلك أنها تضمن تكافؤ الفرص، فعليا، بين جميع المواطنين دون أي تمييز عقائدي.
ففي الدولة المدنية، العلمانية، يمكن لأي مواطن مغربي فاز حزبه بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية أن يترأس الحكومة. أما في الوضع الحالي، فلا يمكن أن نتصور وصول مغربي ملحد أو لاديني إلى رئاسة الحكومة، أو حتى إلى منصب وزاري آخر، لأن قواعد البروتوكول الذي تفرضه إمارة المؤمنين يوجب على رئيس الحكومة والوزراء، وباقي المسؤولين الكبار، أن يصلوا الجمعة وصلاة العيدين إلى جانب الملك، وأن يحضروا كل الأنشطة الدينية لأمير المؤمنين.
وهنا، لا تتناقض وظيفة أمير المؤمنين فقط مع وظيفة الملك وإنما مع مبدأ تكافؤ الفرص الذي يقره الدستور المغربي. والأكيد أنه إذا طُرح الاختيار في الوضع الراهن بين رئيس حكومة ملحد وكفء، وآخر “مؤمن” ولا يتقن بالمقابل إلا التهريج والقهقهات، فسيقع الاختيار على الثاني دون الأول حتى وإن كان ذلك إهدارا لكفاءات وطنية من الأولى أن تستفيد منها البلاد وينتفع بخبراتها الشعب.
بالتأكيد، فالطريق إلى إقامة الدولة المدنية، العلمانية، في المغرب ليس طريقا مفروشا بالورود. وتواجهه، وستواجهه، الكثير من المقاومات من جانب كل التشكيلات التقليدانية، الظاهرة والخفية، التي تستغل العاطفة الدينية لدى العامة، وتتقن فنون التهييج والتجييش. وهي بذلك لا تخدم الدين ولا الدولة ولا المجتمع بقدر ما تخدم مصالح وأجندات داخلية وخارجية هي اليوم أكبرُ خطر يتهدد مستقبل المغرب والمغاربة سياسيا وحضاريا.
فباسم الدفاع عن “دين الأمة” ظهرت، وتظهر وستظهر، تيارات نكوصية معادية للتقدم والديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان. وطالما أن هناك مؤسسة إسمها إمارة المؤمنين فإن هذه التيارات المتخلفة تجد ما يمكن أن تختبئ وراءه ما دامت ضعيفة وليس ميزان القوى في صالحها. لكنها، حتماً، لن تتردد في الانقلاب على إمارة المؤمنين وعلى الملكية متى صار ذلك ممكنا. ولا داعي لأن نذكر هنا (رغم أن الذكرى تنفع!) بأن “الإسلاميين” في السودان سبق لهم أن بايعوا جعفر النميري قبل الانقلاب عليه عملاً بالمبدأ القائل: “عليك تقبيل اليد التي تريد أن تقطعها إلى أن تتمكن منها”. وحتى إذا كان واقع الجماعات والتيارات “الإسلامية” في المغرب الحالي بعيدا، ومختلفا، عن واقع السودان، فلا شيء يضمن (خاصة في زمن موسوم بالتقلبات الفجائية والسريعة) أن نجد أنفسنا يوما ما أمام استشراء سرطاني للإسلام السياسي المتطرف. ولذلك يبدو من مصلحة الدولة والمجتمع معاً تحصين المكتسبات التي تحققت حتى الآن على صعيد الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان، وتحصين الملكية نفسها ضد هذه الأخطار الكامنة التي لا تتهدد الملكية وحدها وإنما هي تتهدد الكيان المغربي برمته.
لقد كان المغرب، قبل سنة 2011، متقدما على الصعيد السياسي بالمقارنة مع دول كثيرة من دول المنطقة، وكان يُعتبر نموذجا رائدا في الانتقال الديموقراطي. أما اليوم (وينبغي أن نعترف بذلك) فنحن متخلفون بالمقارنة مع دول مثل مصر أو تونس اللتين أقرتا الدولة المدنية دستوريا.
ومهما كانت آلام المخاض السياسي العسير الذي يجري في هذين البلدين فإن المآل الحتمي للتجربة التونسية، والمصرية، هو بناء نموذج معاصر للدولة يتحقق فيه الفصل بين الدين والسياسة، بينما سنظل (ولا نتمنى ذلك) في إطار دولة دينية تحمل بذور الانقسام الديني والمذهبي والطائفي التي لا نعرف أي مياه خبيثة يمكن أن تسقيها في المستقبل لنجد أنفسنا في مستنقع الفوضى والاقتتال بين “المؤمنين” و”غير المؤمنين”.
وعلينا ألا ننسى أن المغرب مُستهدف وتحوم حوله أطماع وأحقاد داخلية وخارجية، وأن أول ما يُستهدف هو الاستقرار الذي ينعم به المغاربة في زمن الذبح على الهوية، والإبادات الجماعية، والسبي والخطف. ولصيانة هذا الاستقرار فنحن معنيون جميعا بصيانة وتطوير المؤسسة الأولى التي تضمنُه دستورياً وعملياً، وجعلها تنتقل إلى مرحلة جديدة من الاندماج في روح العصر. وهو ما يمكن أن يتم في إطار رؤية وطنية شاملة لهذا الانتقال إلى الدولة المدنية، العلمانية، تقوم على الحوار والعقلانية والتوافق وترجيح المصلحة الوطنية العليا.
*مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر كتابها ولا تعبر عن رأي ” زاكورة نيوز”.