الكاتب: عزيز السكري
قال كوان تسو ذات مرة: “إذا خطّطتَ لعامٍ؛ أبذر القمح، وإن خططت لعقد؛ ازرع الشجر، وإذا فكّرت بجيل؛ كوِّن الانسان وعلِّمه”.
رسميا، وبحسب إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط وصل تعداد سكان إقليم الحسيمة حسب إحصاء 2014 إلى 399654 نسمة، وهو ما يمثل 11.2% من سكان جهة طنجة-تطوان-الحسيمة، و1.2% من السكان على الصعيد الوطني. ويشكل سكان المدن بالإقليم 34.4%، منهم 50.1% إناث من الساكنة. كما تمثل نسبة الفئة العمرية النشيطة 64.1% من ساكنة الإقليم. وتصل نسبة الأمية إلى 39.3% متجاوزة نسبة المعدل الوطني الذي يصل إلى 23.2%. ويصل معدل البطالة حسب نفس الإحصاء إلى 16.3% تختلف نسبته بين العالم القروي الذي تصل فيه إلى 13.6%، والعالم الحضري 21.4%، وتجاوزت 29.9% في صفوف الإناث كمعدل مع تسجيل فرق بين العالم الحضري والقروي إذ تصل في العالم الحضري إلى 45.4 %. أكيد أن وجود هذه الأرقام في سجلات رسمية لدولة تحترم مواطنيها سوف يجد مسؤولوها نفسهم بين خيارين لا ثالث لهما إما الاعتذار والاستقالة يا إما التشمير على السواعد والعمل على التدارك. أما في بلداننا المغاربية والمشرقية فالتمادي في “التسنطيح” و “تخراج العينين” هما السمتان الظاهرتان لمسؤولينا.
ما الضير إذن أن يخرج علينا مسؤول – يوما ما- باستقالته لأنه لم يستطع أو لم تسعفه ظروف العمل المحيطة أن يقدم ما يرجى منه لصالح مواطن وثق فيه وسلمه طوعا التفويض لتسيير شؤونه؟ ما العيب أن يقال أن الدولة لم تصب في اختياراتها النيولبرالية؟ ما العيب أن يُحْمَلَ الشعب على الأعناق؟ أليس هو مصدر الشرعية في الديمقراطية الحقة؟ ما الخارج عن المنطق في أن يحاسب وزير فاسد ورجل أعمال امتص دماء المستضعفين وهَرَّبَ خيرات البلاد؟ ما السوءة في خروج المواطنين والمستضعفين للاحتجاج على سياسات بائدة تهدف تجويعهم وتفقيرهم؟ وما الفائدة من وجود مُلْكٍ قوامه الظلم والإستعباد؟ وما المستفاد من تقارير رسمية تفضح بالأدلة الفاسدين وناهبي المال العام عن لم تُأَجْرَأ؟ وما فائدة القانون إن لم يكن ملزما وعاما ومجردا ومقترنا بجزاء؟
إن المتتبع للحراك السلمي في إقليم الحسيمة بمنطقة الريف ليلاحظ بانه ليس بالحدث العابر بقدر ما هو تراكم أدى الى استيقاظ من سبات دام أربعة عقود من الزمن، منذ خروج الاحتلال الإسباني من المنطقة مرورا بسياسات التهميش الممنهجة للحسن الثاني وخطابه الشهير بوصف ساكنة المنطقة بـ(الأوباش) بالإضافة الى اختلال السياسات التدبيرية للحكومات المغربية المتعاقبة على تدبير المرافق العمومية ضد مًتَحَرِّكِ وَجَمَادِ المنطقة من إنسان وبنية تحتية. بحيث لا يختلف اثنان أن بدايتها قديمة ومتجذرة في التاريخ الجماعي الجريح لساكنة الريف لكن شرارة بعثها كانت ليلة 28 أكتوبر 2016 مع مقتل الشهيد “محسن فكري” بائع السمك الذي طُحِنَ في شاحنة نقل الأزبال بسبب احتجاجه على استصدارِ أسماكه من طرف السلطات. هذا الحادثة التي خلفت سخطا شعبيا ليس فقط بمدينة الحسيمة لكن في المغرب برمته تُرْجِمَ إلى وقفات سلمية نظمت بساحة المدينة منذ 5 من يناير 2017 تلتها أحداث الشغب بملعب ميمون العرصي مع نهاية المقابلة التي جمعت بين فريق الوداد البيضاوي والفريق المحلي للمدينة يوم 3 مارس 2017 والتي عرفت تخريبا واعتداء على الممتلكات الخاصة والعمومية. ثلاثة وعشرون يوما بعد ذلك طغت على السطح أحداث “إمزورن” والتي عرفت مواجهة بين أفراد وقوات الأمن في مبنى كان يأوي عناصر هذه الأخيرة مما أدى الى تعزيزات أمنية مشددة وبداية مسلسل الاعتقالات التعسفية. بعد ذلك – وبعد مخاض عسير- عُيّنَت الحكومة الجديدة بعد مرور زهاء 6 أشهر عن الانتخابات التشريعية وجنحت في بلاغ لها إلى تخوين نشطاء الحراك واتهامهم بالنزوع الى الانفصال عن المملكة بمباركة من وزير الداخلية الجديد.
لطالما نودِيَّ بعدم استعمال الدين ودور العبادة لأغراض سياسية لكن الدولة المغربية أبت الا أن تسبح ضد التيار ولم تستقرئ دروس التاريخ في هذا الفصل البيِّن بين شؤون تدبير يومية تشغرها السياسة وبين شؤون أخروية خولت قصرا للدين وسقطت في المحظور عندما وظفت خطبة الجمعة ليوم الجمعة 26 ماي2017 بمسجد محمد الخامس بحي ديور الملك للتأثير في مجريات الحراك السلمي لساكنة الحسيمة وذلك بوصف خطيب الجمعة للحراك بالفتنة وهو ما أدى الى سجال بينه وبين نشطاء الحراك الذين قاطعوه واحتجوا عليه على منبر الخطبة ليتلوه بعد ذلك مذكرات اعتقالات ومتابعات تعسفية بالجملة في حق النشطاء من طرف السلطات ومقاطعة واسعة لصلاة الجمعة من طرف الساكنة وازدياد المظاهرات المتضامنة والداعمة للحراك، والتي ووجهت بقمع واعتقالات من طرف السلطات العمومية تجاه المتظاهرين. لتبدأ سلسلة المحاكمات الصورية للنشطاء بتهم تتفاوت في ركنها وسندها القانوني ما عدى حقيقة فبركتها وجورها وعدم قانونيتها تجاه المعتقلين الذين وصل عددهم الى 135 معتقلا من بينهم 7 صحفيين منذ اندلاع الحراك الى حدود 18 يونيو 2017.
تاريخيا، لم تذكر كتب التاريخ قط أن شعبا ما كان هو السبب في كارثة حلت بوطن ما في مقابل تأكيدها على أن ديكتاتورية وظلم وغطرسة الحكام هي دَافِعُ البسيط والمستضعف للتمرد. وما بروز الحراك وتوسعه إلا دليل على أن مواطني ما بعد حراك 20 فبراير لم يعودوا يخشون شيئا سوى الجوع وانتهاك أبسط حقوقهم في عيش كريم أمام مقاربة أمنية أثبتت فشلها الذريع أمام ساكنة أقصى ما يمكن أن تعيشه هو التهميش الذي طالها لعقود وشباب معطل شرب من ثدي نساء لا يَهَبْنَ شيئا أمام جوع أبناءهن. لحدود الساعة فالحراك نجح في استعادة رموز الهوية التاريخية، بالانتصار لقيم العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، بتمثُل أساليب الاحتجاج السلمي في التظاهر الجماعي؛ وفي رفعه لشعارات مناهضة للاستبداد و”الحكرة” والفساد واقتصاد الريع وكل أشكال الابتذال في التدبير السياسي؛ بالإضافة إلى المطالبة بحق الأجيال في الشغل والصحة والتعليم والثقافة والبيئة النظيفة.
باختصار كانت هذه جل الأحداث والأرقام والأكيد أن طحن الشهيد “محسن فكري” لم تكن سوى شظية في بركان أنفجر ولربما سيَهْلَكُ الكثيرون من ورائه، ويبدو أن السلطات المغربية لم تستوعب بعد درس الحراك الاجتماعي الذي عرفته منطقة مشرق/مغرب والذي أسقط أنظمة ويسري في إصلاح أخرى. بالإضافة الى عدم استقراءها للتاريخ وللفعل التغيري في المغرب الذي استنفذ الأطروحات البائدة لمغرب شيخ ومسؤولون معاقين فكريا ينبذون كل يوم مقياسا من مقاييس الديمقراطية والتنمية التي محورها الانسان. نحن اليوم أمام مفترق طرق اما العمل بروح الديمقراطية أو النكوص إلى سنوات الرصاص. لكن الأمر يتطلب مسارا عسيرا وطويلا مداخله الرئيسة العدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد المستشري في جسم مؤسسات الدولة. وذلك لا يتأتى الى بالتمرد على قدرية الأدوار المدونة سلفا في ألواح المواطنين بحيث لا يكفي اليوم صراخ المقهورين بل من الحتمية طرح أسئلة جوهرية من مثيل: من قهرنا وحرمنا من سبل العيش الكريم؟ ولماذا؟ والى متى؟ وما الحل؟ حينها فقط سنحقق المغرب الذي نحلم به كشباب، مغرب عادل ديمقراطي يصبو الى الأمام بسواعد الصادقين والمخلصين لقضايا البسطاء، وخلاصةً “تبقى الثورة مستحيلة إلى يصبح من المستحيل تجنبها”.
هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن كامل وجهة نظر الموقع.